قبل ثماني سنوات، طرقت الشرطة باب سكن اللاجئين المؤقت بحثاً عني. لحسن الحظ، لم أكن في غرفتي تلك اللحظة. كنت قد تلقيت قبلها بشهرين رفضاً لطلب لجوئي، بسبب بصمتي المسجلة في دولة أوروبية أخرى. تقدّمت بطعن، لكنه رُفض، وصدر بحقي قرار ترحيل. لم أكن مستعداً للمغادرة. ولم تكن المسألة مجرد أوراق إدارية، بل كانت حياة بدأت تتشكّل هنا. وجدت نفسي أمام خيارٍ وحيد لتجنّب الترحيل وهو اللجوء إلى الكنيسة.
الطريق لم يكن سهلاً، خاصة في ظل ضعف لغتي الألمانية آنذاك. تواصلت مع أكثر من ست كنائس في مدن مختلفة، أشرح حالتي وأطلب المساعدة. أخيراً بمساعدة عدد من الأشخاص الطيبين، وجدت ملاذاً في كنيسة شتيفانوس الإنجيلية بمدينة غيسن. أربعة أشهر قضيتها هناك، بحلوها ومرّها. اللجوء الكنسي لا يمنح حرية، بل يفرض حياة داخل جدران لا يجوز تجاوزها، ولو لحظة واحدة، حتى لا يقبض عليك. تصبح الحياة مؤجلة، محصورة داخل مبنى واحد. لكن وسط تلك القيود، يُولد أيضاً الأمل.
من تجربة شخصية إلى بحث صحفي
بعد مرور ثماني سنوات، جاءت الصدفة للعودة إلى هذا الملف، لكن هذه المرة ليس كطالب حماية، بل كصحفي. أردت أن أفهم كيف يعمل نظام اللجوء الكنسي، من يتّخذ القرار، ولماذا تحترمه الدولة رغم أنه لا يستند إلى نص قانوني؟ وكيف يمكن للاجئين أن يجدوا طريقهم إلى هذا “السجن الاختياري”؟ لهذا السبب، عدت إلى مدينة غيسن، حيث التقيت السيد رالف مولر، مستشار شؤون اللاجئين واللجوء الكنسي في الكنيسة الإنجيلية في هيسن وناسّاو (EKHN)، والذي لديه تاريخ لافت بمساعدة اللاجئين.

السيد رالف مولر
ما هو اللجوء الكنسي؟
أوضح السيد مولر في بداية حديثه أن “اللجوء الكنسي ليس حقاً قانونياً مذكوراً في التشريعات الألمانية، بل هو تقليد يُحترم ضمن تفاهمات غير مكتوبة بين الكنائس والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين.” وأضاف: “على الرغم من أن مكتب الهجرة انتهك الاتفاقية عدة مرات في العامين الماضيين، إلا أنه يتسامح مع الغالبية العظمى من حالات اللجوء الكنسي حتى الآن”. بالأساس يرجع مفهوم اللجوء الكنسي إلى تقاليد دينية قديمة، مثل “مدن الملجأ” المذكورة في العهد القديم، التي كانت توفّر حماية مؤقتة لمن ارتكب القتل غير العمد. ومع بدايات المسيحية، تحوّلت الكنائس إلى ملاذات للمضطهدين، خاصة خلال فترات الاضطهاد الروماني، حتى صدور مرسوم ميلانو عام 313م، الذي سمح بحرية العبادة. هذه الخلفية الدينية والتاريخية أرست الأساس لما نعرفه اليوم باسم “اللجوء الكنسي”، والذي عاد للظهور في ألمانيا قبل نحو 40 عاماً، بعد حادثة مأساوية هزت المجتمع الكنسي في ألمانيا.
الشرارة التي أطلقت اللجوء الكنسي الحديث
ظهر اللجوء الكنسي بألمانيا بمفهومه الحديث فعلياً عام 1983، بعد حادثة مأساوية تركت أثراً عميقاً في المجتمع الألماني. شاب تركي يدعى جمال كمال ألتون، كان يبلغ من العمر 23 عاماً، وكان يواجه خطر الترحيل إلى تركيا، وهناك كان يخشى السجن أو التعذيب. أثناء جلسة المحكمة في برلين، قفز من نافذة الطابق العلوي وانتحر. يقول السيد مولر أن “هذه الحادثة أعادت النقاش مجدداً داخل الكنائس. عندما يكون هناك خطر حقيقي على حياة الإنسان، لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي”. بعد أسابيع على الحادثة، قررت كنيسة Heilig-Kreuz في برلين منح عائلة فلسطينية من لبنان مأوى داخل جدرانها، كأول حالة لجوء كنسي معروفة في ألمانيا.

إكليل من الزهور على حجر النصب التذكاري لكمال ألتون في برلين/epd.Bild
من يستحق اللجوء الكنسي؟
تتفق الكنائس أن منح الحماية داخل الكنسية ليس قراراً عشوائياً أو سهلاً. بل تخضع كل حالة لتقييم دقيق. الأولوية غالباً تُمنح لمن يواجهون خطر الترحيل إلى دول لا تحترم حقوق الإنسان بنفس القدر كألمانيا، مثل رومانيا أو بلغاريا، أو لأشخاص من أقليات جنسية معرضين للخطر في بلدانهم. بهذا الصدد يؤكد السيد مولر أن: “ليس كل من يطلب اللجوء الكنسي يحصل عليه. المسؤولية كبيرة، والموارد محدودة”. كما أن الكنائس ترفض عادة استقبال من لا يمتلكون فرصة حقيقية للحصول على الإقامة لاحقاً، كي لا توهمهم بأمل زائف. ويضيف أن الكنيسة لا تُصدر قرارات إقامة، بل الدولة وحدها تفعل ذلك. واللجوء الكنسي لا يضمن الإقامة القانونية الدائمة، فقد تُخطئ الكنيسة في تقدير الحالة، ويبقى القرار النهائي بيد السلطات الرسمية.
تحديات كثيرة وقدرات محدودة
رغم البعد الإنساني الكبير لهذا التقليد، إلا أن الكنائس تعمل في ظل إمكانيات محدودة. في مدينة غيسن مثلاً، لا يتوفر سوى 10 إلى 13 مكاناً للجوء الكنسي، بينما يتلقى السيد مولر ما بين 7 و10 طلبات أسبوعياً. ويوضح قائلاً: “نوفر لكل شخص نحو 20 يورو أسبوعياً لتغطية احتياجاته الأساسية، وكل ذلك يعتمد على التبرعات”. ويضيف: “المشكلة الأساسية ليست التمويل فقط، بل نقص الأماكن المناسبة، إضافة إلى العبء النفسي الكبير على اللاجئين، خاصة الأطفال والعائلات، الذين يُحرمون من الروتين اليومي الطبيعي، وحتى من الذهاب إلى المدرسة في كثير من الحالات”.
هل هو ملاذ أخير أم بداية جديدة؟
أثناء مقابلتي مع السيد مولر، لم أستطع أن أمنع نفسي من مقارنة كلماته بتجربتي الشخصية. ففي لحظة ما، كنت ذلك الشخص الذي لا يملك مكاناً يذهب إليه، والذي وجد نفسه في زاوية ضيقة لا تفتح إلا على الكنيسة. صحيح أن اللجوء الكنسي ليس نظاماً مثالياً، لكنه ضروري. هو تذكير بأن القانون أحياناً لا يكفي، وأن الإنسانية يجب أن تسبق البيروقراطية. ربما لا يحل اللجوء الكنسي أزمة اللجوء في ألمانيا، لكنه بلا شك ينقذ أرواحاً، ويمنح فرصة ثانية لمن سُدّت في وجههم الأبواب. وكما قال السيد مولر في ختام حديثه: “نحن لا نعد أحداً بالحماية الكاملة، لكننا نَعِد بأن لا نتركه وحيداً.” وهم فعلاً لم يتركوني وحيداً.