Photo: Canva Pro
19/07/2025

التقاعد في الأربعين: حلم “الحرية المالية” في ألمانيا… هل هو ممكن فعلاً؟

في مجتمع يشهد ضغوطًا مهنية متزايدة، وسوق عمل لا يرحم، بدأت فكرة “التقاعد المبكر” تثير فضول الكثيرين في ألمانيا، خاصة أولئك الذين أنهكتهم دوّامات العمل، أو يشعرون بأن الزمن يسرق حياتهم، وهم يسعون فقط لتأمين الإيجار والفواتير. لكن هل يمكن حقًا التوقف عن العمل في سن الأربعين والاعتماد على ما تدّخره من مالك؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه حلمًا ورديًا تحول دون تحقيقه تفاصيل الحياة الواقعية؟

لماذا يفكر البعض في التقاعد المبكر؟

هذا ما حاول موقع تاغسشاو الإخباري الإجابة عليه، فوفقاً لتقرير بثته قناة ARD الألمانية عبر برنامجها الاقتصادي على يوتيوب “50k”، يختار عدد متزايد من الأشخاص الابتعاد عن فكرة التقاعد التقليدية في سن 67، ويخططون بدلاً من ذلك للوصول إلى “الاستقلال المالي” قبل الأربعين، بحيث يتمكنون من العيش من عوائد استثماراتهم دون الحاجة إلى العمل. الدافع هنا ليس الثراء، بل كما تقول كاتارينا لوث، عضو مجلس إدارة شركة التكنولوجيا المالية Raisin، “الرغبة في امتلاك حرية القرار وعدم الاعتماد على رب عمل أو تسلسل وظيفي صارم”.

السر في قاعدة الأربعة بالمئة

كاترينا ليست وحدها من تفضل هذا النمط من الحياة، فهؤلاء يُطلق عليهم اسم: Frugalisten، أي “المتقشفون”، وهم أفراد يختارون نمط حياة شديد الاقتصاد، وينفقون أقل ما يمكن، مقابل ادخار الجزء الأكبر من دخلهم. الهدف هو جمع رأس مال يكفي للعيش منه عبر عوائد طويلة الأجل، مثل الأرباح والأسهم والإيجارات. الأساس العلمي الذي يعتمدون عليه هو ما يُعرف بـ”قاعدة الأربعة بالمئة”، المستندة إلى دراسة أمريكية شهيرة من جامعة ترينيتي عام 1998، والتي خلصت إلى أنه يمكن سحب 4% سنويًا من محفظة استثمارية موزعة بشكل جيد، والعيش منها على مدى 30 عامًا دون أن تنفد الأموال.

مليون يورو؟ الحسابات ليست خيالية لكنها صعبة

الناشط المعروف في هذا المجال، أوليفر نولتينغ، يرى أن هذه القاعدة تمثل مرجعًا واقعيًا لتحديد حجم المدخرات اللازمة. فمن يسحب 4% سنويًا من أمواله، يحتاج إلى ادخار ما يعادل 25 ضعف نفقاته السنوية. على سبيل المثال، إذا كان إنفاق الأسرة 2,846 يورو شهريًا (وهو متوسط إنفاق الأسرة الألمانية وفقًا لمكتب الإحصاء الاتحادي عام 2022)، فسيحتاج الفرد إلى حوالي مليون يورو للتقاعد في سن الأربعين والعيش منها حتى سن السبعين.

لكن جمع مليون يورو خلال 15 عامًا ليس بالأمر الهين. وحتى إذا اعتمدنا على عائد استثماري سنوي نسبته 6%، كما يحققه مؤشر MSCI World، فإن الأمر يتطلب ادخار أكثر من 5,000 يورو شهريًا – وهو مبلغ يتجاوز صافي دخل غالبية المهاجرين في ألمانيا-، حيث يبلغ متوسط الأجر الإجمالي للموظفين نحو 4,634 يورو شهريًا (بحسب إحصاءات أبريل 2023).

فلسفة التقشف

وهنا يظهر جوهر فلسفة المتقشفين: إنفاق أقل، ادخار أكثر. فبينما يدخر الألمان عادة 10% من دخلهم، فإن الـ Frugalisten  يصلون إلى 70% أحيانًا. البعض منهم يقلل مصاريفه الشهرية إلى 1,500 يورو فقط، ما يخفف من الحاجة إلى رأس مال ضخم، لكنه في المقابل  يعني العيش في غرفة صغيرة، أو في سكن مشترك، أو في أطراف المدن، كما تشير كاتارينا لوث.

لكن، هل الحياة بهذه الطريقة واقعية؟ الخبراء يحذرون من أن هذه الخطط غالبًا ما تصطدم بتقلبات الحياة: تغيير السكن، تكوين عائلة، فقدان وظيفة، أو حتى انخفاض مفاجئ في سوق الأسهم. وتضيف لوث أن الشخص لا يمكنه ببساطة “بيع أسهمه حين تكون في أعلى مستوياتها”، بل عليه سحب جزء منها دوريًا حتى إن كان السوق في حالة هبوط.

ضرائب وتأمينات: ما لا يجب إغفاله

هننا يجب الانتباه أن الالتزامات الضريبية لا تتوقف خلال فترة التقاعد المبكر. فكل أرباح الأسهم تخضع لـ (Abgeltungssteuer) بنسبة 26.375%، وقد تكون هناك حالات يمكن فيها الاستفادة مما يسمى بـ (Günstigerprüfung) لخفض العبء الضريبي وفقًا للوضع الشخصي. كما يتوجب على من يختار التقاعد المبكر دفع اشتراكات التأمين الصحي الإجباري بنفسه، دون حق الحصول على “بدل المرض”، بالإضافة إلى توقفه عن دفع مساهمات تقاعد الدولة، ما يعني أن معاش التقاعد الرسمي لن يكون متاحًا قبل سن 67.

وفي النهاية، يؤكد أوليفر نولتينغ نفسه أنه لم يعد يتبع هذا الطريق الصارم، مفضلاً العمل الجزئي وقضاء وقت أطول مع عائلته. أما كاتارينا لوث فتختم بالتأكيد على أهمية هذه التجربة، حتى لو لم تتحقق بالكامل، لأنها تفتح أعين الناس على تساؤلات جوهرية: ما الذي أحتاجه فعلاً؟ وكم يكفيني للعيش بكرامة حين أتقدم في السن؟

Amal, Berlin!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.