Foto: Ahmad Kalaji
24/11/2023

المنسف والأبراج vs الدقة في المواعيد وحرية التعبير!

يبدو أن أبراج الخليج الشاهقة ليست شاهقة بما يكفي لتنافس أبراج الصور النمطية للبلدان العربية التي بذل الغرب مجهوداً كبيراً لبنائها على مدى العقود. على الرغم من وجود مئات الآلاف من العرب في ألمانيا، لايزال هناك من يعتقد أن الجمل وسيلة التنقل الرئيسية في بلداننا. وأن إيران وأفغانستان بلاد عربية. وأن قطر تقع في دبي أو أن دبي في المملكة العربية السعودية!

المنسف وعاصمة فرنسا؟

خلال الأشهر السابقة، قمت بزيارة الأردن والإمارات مع زوجتي لرؤية الأهل بعد فراق دام قرابة العشر سنوات. ردود الفعل قبل وأثناء وبعد الزيارة كانت غريبة جداً. غريبة كغرابة مقاطع الفيديو التي يسأل فيها بعض الأمريكان عن عاصمة فرنسا فيجيبون بالدنمارك! عندما أخبرت إحدى الزميلات بخطط السفر سألتني باستغراب: “إلى دبي؟ أليس من الخطر أن تأخذ زوجتك الألمانية إلى هناك؟” كان السؤال غير مفهوم بالنسبة لي! خطر على زوجتي؟ لم قد يكون ذلك خطراً؟ فأجابتني: “لأنها امرأة! والسعودية مكان غير آمن للنساء يتم اضطهادهن هناك!” يا للمفاجأة.. كيف أرد على ذلك؟ لا أخفيكم سراً، ثمانية أعوام في ألمانيا كانت كفيلة بتسلل بعض مشاعر الخوف والتوتر إلى اللاوعي الخاص بي قبل السفر! ولكن مع بداية اليوم الأول، تبددت كل تلك المخاوف مع أول صحن منسف!

الدقة في المواعيد!

من المثير للإعجاب والمدهش حقاً كيف حافظت ألمانيا على صورتها اللامعة التي تصدرها إلى الخارج في محركات السيارات! في كل مرة نسأل بها عن مكان قدومنا، سواء كان ذلك في الأردن أو الإمارات، تكون ردة الفعل نفسها في كل مرة! أوووه ألمانيا! بلد الدقة في المواعيد. بلاد العمران والتطور والحضارة.. والدقة في المواعيد. الكفاءة والمهنية.. والدقة في المواعيد. العلوم والهندسة والطب.. والدقة في المواعيد. بلد المحركات والسرعة.. والدقة في المواعيد! كما كان هناك إجماع على أن أي منتج من صناعة ألمانية هو الأفضل بلا منازع! أذكر تماماً تلك النظرة، النظرة ذاتها التي دفعتني إلى القدوم إلى ألمانيا قبل ثماني سنوات! لم يكن من السهل إخبارهم أن الدقة في المواعيد تبكي في محطات القطارات. أن أكثر من 80% من الشركات ما زالت تستخدم الفاكس. أن السرعة والكفاءة بحاجة إلى طوابع قبل أن تستقر في دروج الدوائر الحكومية لأشهر عجاف. أنه في بلاد العمران، لم تنتهِ أعمال البناء في الشارع الذي أقطنه منذ ثماني سنوات وأن مطار برلين استغرق بناؤه أكثر من عشرين عاماً!

لم يعد الأمر مقنعاً

ما كان مخيباً للآمال بحق، هو خسارة ألمانيا لصورتها كبلد الحريات وحقوق الإنسان والقضايا المحقة أمام الشعوب العربية. يعلم الجميع عن تخبط الحكومة وصعود اليمين. عن سياسات اللجوء المجحفة وازدياد عمليات الترحيل. عن ثقافة الإلغاء والرأي الواحد. وعن رمي الاتهامات من كل حدب وصوب على كل كبيرة وصغيرة!

صورة غائمة كطقس برلين

فيما عدا ذلك، كان الجميع في الأردن لطيفاً ومحباً للغاية، بالأخص في قطاع الضيافة والخدمات! تشعر برغبة شديدة بإعطاء البقشيش لقاء الابتسامات والخدمة الجيدة واللطف الغامر. أمور قد نسيناها في ألمانيا! أما دبي، فهي كوكب مختلف تماماً من حيث التنوع والعمران والسرعة والكفاءة وسهولة المعاملات. دبي كخلية نحل لا تتوقف عن العمل. لا تشعر أنك “غريب” و”مهاجر” هناك، فالجميع غرباء. كاميرات في كل زاوية وفي كل مكان، في مواقف السيارات والتقاطعات والمداخل والمخارج والشوارع والحواري، ما يجعلها ككابوس خرق الخصوصية بالنسبة للألمان! بذات الوقت، انتشار الكاميرات والقوانين الصارمة تجعل من الإمارات أأمن دول العيش بثاني أقل معدل جرائم في العالم بعد قطر. أفهم جميع الانتقادات ضد الإمارات وبلدان الخليج العربي بشكل عام، ولكن بعد سنوات طويلة في أوروبا، أصبحت الصورة ضبابية وغائمة كطقس برلين!

حرية تعبير

يسألني الجميع، هنا وهناك، أيهما أفضل؟ من الواضح أن كلا البلدان بحاجة ماسة إلى العمالة الخارجية وأن الاقتصاد قائم على “المهاجرين” و”المغتربين” ولكن هناك اختلاف شاسع بكيف يتم التعامل مع هؤلاء. وعلى الرغم أن المهاجرين في ألمانيا يحصلون على حقوق أكبر وضمان اجتماعي ممتاز، إلا أن “المغتربين” في الإمارات يحصلون على فرص أكبر إن كانوا أهلاً لهذه الفرص والتطور الوظيفي، على صعوبته، ليس ببعيد المنال! أعتقد أن الجواب الأنسب لسؤال أيهما أفضل يختلف من شخص لآخر وما يريد تحقيقه مهنياً ومادياً واجتماعياً ونمط الحياة. لذلك عليك أن تقارن بنفسك مساوئ ومحاسن كل منهما. ما قد يكون مناسباً لك ربما لا يناسب غيرك.

في النهاية، بعد العودة، تحدثت مع زميلتي عن الإجازة والوقت الذي قضيته مع العائلة في الأردن والإمارات وملاحظاتي الجيدة عن كلا البلدين. قالت لي على مضض: “يبدو ذلك جميل حقاً ولكن ليس لديهم حقوق إنسان ولا حرية تعبير”. زممت فمي ممتعضاً وأخبرتها أنه على ما يبدو فإن حرية التعبير على موعد مع الدقة في المواعيد في محطات القطارات!