Photo: Privat
20/11/2021

لتحقق ذاتها.. عبرت بكرسيها المتحرك 8 دول نحو ألمانيا!

من شقتها في الطابق الخامس في مدينة حلب، ظلت نوجين المصابة بشلل دماغي تراقب الأطفال، وهم يترددون على المدارس، بينما لم تكن قادرة على الخروج من المنزل إلا فيما ندر! نوجين الفتاة الكردية، ليست بالفتاة التي تقبل الهزيمة، أو تقف مكتوفة الأيدي، وتنتظر تدخل القدر، فمع عجز الأسرة على إرسالها إلى مدرسة خاصة، قررت تعلم القراءة والكتابة في المنزل بمساعدة أخواتها اللاتي يكبرنها. وبشغف كبير، ورغبة مُلحة، انطلقت نوجين تواصل تعليمها بالاعتماد على نفسها.

البحث عن الأمان

مع وصول الربيع العربي إلى سوريا، وتحول الوضع لمواجهات مسلحة، تضاعفت القيود المفروضة على نوجين، وزادت معاناة الأسرة، واستُهدفت مدينة حلب بأنواع مختلفة من الأسلحة، خاصة أنها كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة. العزلة التي تعيشها نوجين صارت مع الحرب أكثر قتامة، ما اضطر الأسرة للمغادرة إلى ريف حلب، بحثاً عن الأمان، ثم إلى تركيا! تقول نوجين: “في تركيا وجدنا الأمان، لكنها لا تختلف عن الدول العربية بعدم وجود برامج رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، علاوة على أن الأسرة أصيبت بالجمود، ولم تستطع أختي إكمال دراستها، ولم يحصل أحد من أفراد العائلة على فرصة عمل”.

التحدي الكبير

سمعت نوجين خلال إقامتها بتركيا الكثير عن حياة اللاجئين في ألمانيا، وخدمات الرعاية التي تقدمها الدولة، والمنظمات المدنية لذوي الاحتياجات الخاصة، فطاقت نفسها إلى الهجرة. وبمساعدة أختها، عكفت على إقناع والديها بالسماح لهما بالهجرة، واللحاق بأخيهما الذي سبقهما إلى ألمانيا. دروب اللجوء لم تكن باليسيرة على فتاة تعتمد على كرسيها المتحرك، لكنها أصرت على خوض غمار التجربة، والمخاطرة بركوب البحر، وهي تحدث نفسها أن وراء المحيط حياة تستحق المغامرة. من تركيا إلى اليونان، مروراً بحدود 8 دول، تنقلت نوجين بين البحر والبر، والمواصلات المتنوعة عبر طرق شديدة الوعورة أحياناً، إلا أن حماسها المتقد لم يهن، وإرادتها لم تضعف.

موطن الأحلام

عام 2015 مثّل نقطة التحول الأبرز في حياة نوجين، ومع وصولها الأراضي الألمانية، استُقبلت مع مجموعتها من اللاجئين بمركز مؤقت للإيواء، عاشت فيه لمدة أسبوعين، وأجريت لها ولرفاقها العديد من الفحوص الطبية، استعداداً لنقلهم إلى المدينة التي يعيش فيها أخيها. وبحكم أن نوجين قاصرة، ولا تمتلك أي وثائق قانونية، فقد تم تعيين أم قانونية لتكون المشرفة على رعايتها الاجتماعية والطبية، ومتابعة دراستها.

الالتحاق بالمدرسة

إلمام نوجين باللغة الانجليزية علاوة على اللغتين العربية والكردية، ذلل لها الكثير من عوائق الاندماج مع زملائها، في مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة. الميزة العمرية، ومستوى الوعي الذي تتحلى به، جعلا نوجين تبدأ الدراسة من الصف الثامن، وخلال خمسة أشهر تمكنتمن الإلمام بكثير من مفردات اللغة الألمانية. وبسهولة استطاعت الانخراط بمجتمعها الجديد، لاسيما أن بعض رفاقها في المدرسة ينتمون إلى دول عربية، بالإضافة إلى أن التنوع الاجتماعي ساعدها بالتغلب على مشاعر الغربة.

أبواب مشرعة

تدرس نوجين حاليا في معهد تقني خاص بإدارة الأعمال والاقتصاد، بعد أن تخرجت من الصف العاشر، لتتمكن من الالتحاق بدراسة الثانوية العامة، وتحقيق حلمها بدراسة علم النفس الاجتماعي في الجامعة. لم تأتي رغبة نوجين بهذا التخصص من فراغ، وإنما لشغف يسكن روحها حول معرفة أسرار الإنسان وسلوكياته وإحساسه وتكوين شخصيته وتفكيره ودراسة بناء العلاقات الإنسانية وآليات التواصل. وترى نوجين أن علم النفس سيساعدها بمداواة الجروح الداخلية العميقة لها وللآخرين، ومساعدتهم لتخطي مشاكلهم!

رؤية جديدة

“الإنسان عبارة عن دوافع وشغف” هكذا تلخص نوجين الطموح الذي يسكنها، والقوة التي تحركها نحو الانجاز وتحقيق الذات، ورسم النظرة الايجابية عن نفسها والحياة. لم يحبطها مزيج المعاناة التي عاشته، والمتمثل بالحرب والإعاقة واللجوء، لكنه ساعدها على بناء شخصيتها القوية، وجعلها ترى الحياة برؤية عميقة، ومن زوايا مختلفة، لتستطيع التعامل مع كل ما فيها من أشياء جميلة وصعوبات، وتمعن النظر في كل الألوان.

تبني القضية

صغر سن نوجين، وانشغالها بالدراسة، لم يمنعها من الانخراط في أعمال طوعية، داخل ألمانيا وخارجها، بهدف خدمة اقرأنها من ذوي الاحتياجات الخاصة. وعبر جمعيتها التي ما تزال تحت التأسيس، تسعى لتقديم مساعدات طبية لذوي الإعاقة في سوريا وبلدان أخرى، كما قدمت العديد من الأنشطة لمنظمة هيومن رايتس ووتش، سلطت فيها الضوء على احتياجات هذه الفئة. تقول نوجين: “مرت فترات في حياتي، لم أكن قادرة على التفكير بالمستقبل، أو الحلم به! لكني الآن اشعر بالسعادة لأني قادرة على مساعدة الآخرين والانخراط بالمجتمع والتفاعل معه”

  • سماح الشغدري
    شاعرة وصحفية من اليمن