Photo: Hossam el-Hamalawy
24/01/2021

الثورة المصرية.. طريق اللاعودة والاستيقاظ من حلم يناير!

عشر سنوات على اللحظة التاريخية الأهم، جميعنا عالقون هناك، نحن بغرقنا الشديد في رومانسية اللحظة، وهم برعبهم الشديد من تكرار اللحظة! “نحن” التاركة أبوابها مفتوحة أمام كل مؤمن بالحرية والتعددية، كل طامح للعدالة، كل محب للكرامة. عشر سنوات والمشهد مُرتبِك ومربِك، عشرات الآلاف من المعتقلين، تكميم للأفواه، إعلام أصبح بمثابة مزحة مبتذلة، فرحة بخروج بعض المعتقلين، تدوير المعتقلين، إعادة اعتقال المعتقلين السابقين، معتقلين جدد، أوضاع اقتصادية متردية، دعاية سياسية فجة!

راديكاليون “تأصلحوا” وإصلاحيون “تردكلوا”، النفق يزداد ظلمة إلا من نور يلوح في وسطه تظهر فيه نسوة لا يخجلن من فضح متحرش، مناضلات يعدن موضعة أنفسهن في المجتمع، تظاهرة هنا، صوت هاتف هناك، آلاف الشابات والشباب في المنفى يعانون متلازمة النجاة، حنين وغضب. تحالفات وإقصاء فمصالحة، خلاف فتسامح وإحباطات وآمال، أعمارهم تتآكل بالمنفى، أحلامهم لم تغادر ميادين مصر. اعتراف بالهزيمة، تراجع عن الاعتراف، مراجعات، هل حقًا انهزمت الثورة؟ أم أنها هزيمة جولة في حرب لا نهائية ضد الفساد والاستبداد والجهل؟ يقول لي الناشط اليساري اللاسلطوي د. أحمد سعيد إن “الموجة الثورية التي استمرت من يناير 2011 إلى يونيو 2013 قد هُزمت من خلال حقيقة عدم تحقق أهدافها”؟ فما أسباب الهزيمة؟ أكان الإعلام؟ أم غياب كيان ثوري؟ ربما أموال الخليج؟

التنظيم الثوري

“يعد غياب تنظيم أو كيان ثوري برأيي هو أهم سبب لتعثر الثورة سواء في مصر أو البلدان العربية الأخرى، فعدم انضواء الجماهير تحت مظلة ثورية تمثلها سياسيًا وتمثل أهداف ثورتها، أدى حتمًا إلى ترك الثورة عرضة لسيطرة الانتهازيين والإصلاحيين والثورة المضادة”.. بهذه الجملة حدد الناشط والباحث وعضو حركة الاشتراكيين الثوريين حسام الحملاوي السبب الأول والأهم في هزيمة الثورة المصرية.

يضيف الحملاوي بأن التنظيم الثوري لم يكن ليظهر فجأة يوم 25 يناير 2011 ولا خلال الأيام الثمانية عشر. كما أنه لا يُبنى عقب الثورات، التنظيم الثوري كيان يرتبط بسياق النضال لسنوات قبل لحظة الانفجار. يمثل تراكم الخبرات النضالية والسياسية والاجتماعية التي اكتسبها المناضلون خلال معاركهم المختلفة السابقة على الانتفاضة الثورية. ويؤكد الحملاوي بأن حجم القوة الثورية في الحركات الاشتراكية واليسارية سواء الماركسية أو الأناركية وقتها كان أصغر من المهمة الثورية الكبرى! فلم تستطع القيام بدور التنظيم الثوري السابق على لحظة الاندلاع. تعتمد رؤية الحملاوي على حقيقة موقف الجيش. وقتها والذي لم يكن متأكدًا تمامًا من رغبته في قمع الجماهير نظرًا لأن جنرالات مبارك لم يكونوا واثقين من مدى ولاء الضباط والمجندين. خوفًا من عصيانهم حال طلبوا منهم فتح النار على الجماهير. وعليه فوجود  كيان تنظيمي في هذه اللحظة الفريدة كان ليصنع فارقًا كبيرًا لصالح الثورة ومطالبها.

الإعلام

إن كان ما ينقص الثورة هو التنظيم الثوري، ألم تكن عفوية الموجة الثورية وسلميتها مع آلة إعلامية داعمة كافية لتعويض غياب التنظيم؟ يرى الحملاوي بأن العصر الذهبي للإعلام في مصر كان فقط منذ فترة ما بعد الثورة مباشرة وحتى 2013: “هذا بالطبع لم يكن هبة لا من المجلس العسكري ولا من محمد مرسي، هو فقط أمر ارتبط بالزخم الثوري الذي فرض نفسه وقتها”.

ويعتقد الحملاوي أنه في فترة ما بعد الانقلاب، تحولت معظم المؤسسات الإعلامية إلى مجرد أداة لدعاية أو بروباجندا النظام تحت سيطرة شبه كاملة لأجهزة المخابرات، وتحولت الصحافة إلى صحافة تحريض ضد الثوار والمعارضة وصلت أحيانًا إلى التحريض على قتل بعض المعارضين في المنفى!

من جانبها ترى الباحثة في مجال الإعلام د. حنان بدر أنه كلما زادت معايير الرقابة والقيود الذاتية، كلما انحصرت التعددية من المشهد العام متضمنًا الساحة الإعلامية! وكلما ضاقت هوامش التعبير المسموحة للـ Counter public وانحصرت في دوائر مغلقة بسبب الخوف والرقابة والكلفة السياسية، كلما قلت مساحة الاشتباك.. بل وكلما أثر ذلك على مصداقية القوى الفاعلة والحركات الاحتجاجية وهذا ما نراه على مدار السنوات القليلة الماضية.

وبشأن فترة ما قبل الثورة ترى بدر أنها شهدت قدر ولو بسيط من التعددية في الساحة الإعلامية. في ظل الهامش الضيق للتعبير وقتها فمن برامج حوارية لتحقيقات واستقصاءات بوسائل إعلام مطبوعة كجريدتي الشروق والمصري اليوم. بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر. ولديها أنه بالمقارنة يمكن القول بأن الساحة الإعلامية اليوم تشهد إلى جانب الرقابة الذاتية نوعًا من القيود القانونية. كإدراج ما يكتب على السوشيال ميديا أو الإعلام الأونلاين بشكل عام في دائرة التجريم القانوني من خلال حجب بعض المواقع.

الترفيه بديلًا عن السياسة

في ظل الرقابة الذاتية والقيود القانونية خلال السنوات القليلة الماضية شهد المجال العام الإلكتروني ثلاث مشكلات رئيسية. هذا ما خلصت إليه الأكاديمية حنان بدر، حيث المشكلة الأولى تتمثل في عدم التسييس أو ما يطلق عليه Depoliticization لنشهد زخم غير مسبوق للخروج من المجال العام السياسي إلى الترفيه. حتى امتلأ الفضاء العام الإلكتروني بقضايا غير أساسية لها طابع التسلية فقط وتؤدي إلى التغطية على قضايا أخرى أساسية تهم المواطن.

ثاني هذه المشكلات لدى بدر، مسألة وجود حملات ممنهجة أو حتى غير مقصودة لنزع المصداقية عن كثير من رموز الثورة والحركات الاحتجاجية. أو حتى تورط هذه الرموز في أخطاء تؤدي إلى التأثير على مصداقيتهم لتخلو الساحة تدريجيًا من تأثيرهم. أما المشكلة الثالثة فتتمثل بالقيود المفروضة على حرية التعبير في المجال الالكتروني نتيجة لرقابة ذاتية وقانونية. هذا فيما يتعلق بالداخل المصري، فماذا إذن عن السياقين الإقليمي والدولي؟

مَن “الثورة المضادة”؟

لا تندلع الثورات الوطنية كما لا تنجح الإنقلابات وتترسخ بمعزل عن المحيطين الإقليمي والدولي! ويعرف د. أحمد سعيد الثورة المضادة في سياقيها الإقليمي والدولي: “الثورة المضادة بالنسبة لي ليست فقط النظام المصري أو دولة العسكر الثانية أو دولة السيسي. فمعسكر الثورة المضادة يشتمل على داعمين من القوى الرجعية الإقليمية ممثلة في بعض دول الخليج. بالإضافة إلى الدول الأوروبية ذات المصلحة في المنطقة وبالطبع أمريكا وروسيا”.

يستطرد سعيد موضحًا بأن الجيش كي يعيد لدولة العسكر السيطرة على مصر. كان بحاجة لشركاء يقدمون الدعم المالي والسياسي. لم يتطلب الحصول على دعم دول الخليج أية مجهودات للأسباب المعروفة وأولها التخوف من نظرية الدومينو. يتبقى الآن الحصول على الدعم الدولي! لذا طور النظام خطابًا لاكتساب هذا الدعم يعتمد على 4 محاور أو ملفات أساسية لشراء شرعيته في المحيط العالمي:

ملف الهجرة غير النظامية واللجوء، ملف الإرهاب، ملف إسرائيل ثم محور البيزنس والأعمال. وبدأ الأوروبيون يتحدثون عن “الاستقرار” بالطبع هم يعنون استقرارهم هم. فوجود هذا العسكري القوي المتحكم سيمنع تأثير الإرادة الشعبية على الكثير من الملفات! نعلم أن الغرب يمكنه التفاوض والتعامل مع أي حاكم من أي خلفية. لكن وجود ديكتاتور سوف يسهل الأمور حسب د. سعيد ويضيف: “من أهم الدروس التي تعلمناها من يناير أنه لا يوجد شيء كثورة محلية تحدث في معزل عن النظام العالمي! وهذا ما يجب على النخب ترجمته للجماهير. فالمشكلة ليست فقط تغيير النظام الحاكم، بل كيفية تقديم الثورة نفسها للجماعة الدولية بتشابك مصالحها وتصارعها في آن واحد”. درس آخر لنتعلمه، ولكن ماذا بقي لنا من يناير؟

طرق اللاعودة

بقدر مرارة الاعتراف بهزيمة الثورة، يحلو لنا الحديث عن بارقة أمل هنا وانتصار صغير هناك كان ليناير الفضل في ظهوره، فرغم الآثار المدمرة للثورة المضادة وكيف أنها لم تكتفي بإعادة المجتمع لما كان عليه عشية الثورة، بل تمادت لإحداث انتكاسة مرعبة على كافة المستويات “الحريات وعنف الشرطة وملف العدالة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية”، مازال يمكن الحديث عن أمارات وعلامات تركتها يناير فينا، يرصد الحملاوي ثلاث طرق لاعودة فيها لما كانت عليه الأمور قبل الثورة:

الأول وهو الأرضية التي يكسبها النضال النسوي يومًا بعد يوم. فرغم ذكورية المجتمع المصري وكون المرأة فيها مواطنة من الدرجة الرابعة وتعرضها للتمييز الجندري في الوظائف خاصة السيدات من الطبقة العاملة. إلا أنها استطاعت مؤخرًا قطع خطوات واسعة بمكافحة التحرش سيكون من الصعب التراجع عنها. أما الطريق الثاني فهو انتهاء ما يسميه الحملاوي بالـ “اليتم السياسي” حيث لم يكن لدى الأجيال الجديدة ما يمكنها من التواصل مع التاريخ الثوري النضالي المصري. إلا أن الزخم الثوري وما بعده بالتضافر مع تطور الاتصالات والاستعمال المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي. سهل عملية البحث وإيجاد المادة الكافية للتعرف على هذا التاريخ ليصبح هناك فهم متصل متكامل للحراك في مصر.

أما الطريق الثالث الصعب الرجوع منه، هو ما تحقق والذي قد لا يحبه بعض المحافظين. كالنظرة للحريات الجنسية واتساع مساحة الأمان بقدر ما بين الشابات والشباب فيما يتعلق بإقامة العلاقات. بل وتغير النظرة لها بعيدًا عن الوصم الاجتماعي. يلفت سعيد إلى أنه ورغم هزيمة الثورة وانحسار السمت الثوري في شكل خطاب وفعل حقوقي يعتمد على رد الفعل. إلا أن يناير نجحت في إحداث تغيير في وعي المصريين. فمن ذاق لذة الكرامة الإنسانية في الشهور الثلاث التالية للثورة لن ينساها. عبارات كـ “حقوق الإنسان، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية، حقوق المرأة، النسوية، حرية تعبير، العنصرية، حقوق الأقليات، حقوق المثليين” أصبحت دارجة في الشارع المصري.

النضال مستمر

يشدد د. سعيد بالقول: “إن كل فعل فيه انتصار للنظام يحمل إحدى علامات استمرار الثورة والنضال. السجن وعشرات الآلاف من المعتقلين بمثابة قبلة الحياة التي يمنحها النظام للفعل الثوري والنضالي كل يوم. آلاف المنفيين الذين انفتحوا على أفكار جديدة ومن ضمنهم الإسلاميين، يعد بمثابة كنز مستقبلي للتغيير. الأمر له علاقة بالطبيعة الدياليكتية للعنف المؤسسي، فبقدر ما يؤذينا بقدر ما يمنحنا دوافع ومبررات للنضال”. علينا أن ننضج جميعًا ونتخطى طور المراهقة الثورية والتعلق حرفيًا وإجرائيًا بلحظة يناير. النظام أيضًا مازال حبيس حالة يناير يرى فيها مجموعة من الثوار، فقام بسجن معظمهم ودفع البقية إلى الهرب آملًا في عدم تكرار اللحظة.

هل هذه هي النهاية؟ أسأل ضيوفي، تجيب حنان: “الإعلام بصورته الحالية لن يساعد على التمهيد لحراك جديد لكن جذور الثورة مازالت قائمة ومسلطة كسيف على رقاب الحكام”. وأكد حسام على أن العوامل الموضوعية التي أدت إلى اندلاع ثورة يناير حاضرة بل وبشكل أعمق: “سيكون هناك ثورة أخرى. أنا متأكد”! أما أحمد فأغمض عينيه قائلًا: “أحلم بأن أرى حراكًا ثوريًا آخر قبل موتي”.

فإلى لقاء آخر في موجة ثورية جديدة..