“كوفيد-19 لم يفرق بين الغني والفقير، لم يفرق بين الأبيض والأسمر…” كانت هذه الجملة ثاني أكثر جملة سطحية قيلت في إطار الحديث عن كورونا -بعد جملة: عالم ما قبل كورونا غير عالم ما بعده!- ولن تصدر إلا عن حالم أجبرته قسوة العالم أن يشعر بالراحة بأنه وأخيرًا وبعد كل التفاوتات والطبقية بالعالم، وعدم العدالة في توزيع الثروات، يأتي فيروس ليصيب الغني والفقير ويتسبب لكلاهما بالمعاناة على حد سواء! وإما شامت بأنه ولأول مرة سيرى الغني يعاني بنفس مسببات معاناته! بالطبع أفهم المقصود من ذلك بأن الفيروس يصيب كل الناس دونما اعتبار لمكانة اجتماعية أو لون أو أية اختلافات، لكن في الحقيقة حتى هذا الكلام غير صحيح مئة بالمئة، فجميع التقارير الطبية تتحدث عن الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بعد كبار السن، وهم أصحاب الأمراض المزمنة ومنخفضي المناعة، وبالطبع يقع هؤلاء بين الفئات الاجتماعية المهمشة..
المجتمعات الفقيرة الأكثر تأثرًا!
في تقريره مطلع هذا الشهر، صرح البنك الدولي بأن جائحة كوفيد-19 ستؤدي لانكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 5.2% هذا العام، واعتبر التقرير أن هذا الانكماش أعلى ركود منذ الحرب العالمية الثانية، سيؤدي لارتفاع كبير بالفقر المدقع! كما أظهر تحليل قام به مجموعة من الباحثين في البنك الدولي بأن عدد سكان العالم الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم مرشحين للزيادة من 632 مليون شخص عام 2019 إلى 665 مليون إنسان عام 2020 أي بزيادة 49 مليون شخص على أحسن تقدير! وأوضح التحليل الذي نشر بموقع blogs.worldbank أن تأثر الأماكن بالفيروس يعتمد على عاملين أساسيين: الأول: تأثير الفيروس على النشاط الاقتصادي، والثاني عدد الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من خط الفقر الدولي.
ورغم أن التقارير تؤكد انكماش اقتصادات الدول المتقدمة بنحو 6% عام 2020، وانكماش الاقتصادات النامية والأسواق الناشئة بنسبة 1% إلا أن التأثير أكثر سوءًا على الأخيرة، حيث فيها المزيد من الناس الذين يعيشون بالقرب من خط الفقر، وبالتالي ستعاني البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بشكل أكبر من الفقر الشديد في ظل الجائحة، وهو ما يجعل أفريقيا جنوب الصحراء الأكثر تضررًا من حيث الفقر الشديد (23 مليون) رغم أنها أقل إصابة من منظور صحي، يأتي بعدها جنوب آسيا (16 مليون)! وعلى مستوى البلدان التي فيها أناس يقل دخلهم عن 3.20 أو 5.5 دولار باليوم، سيعاني الملايين من سكانها فقرًا شديدًا كالهند (12 مليون)، ونيجيريا (5 مليون)، وجمهورية الكونجو (2 مليون)، بالإضافة لحوالي مليون شخص في كل من إندونيسيا وجنوب أفريقيا والصين، ونفس الشيء بالنسبة لأمريكا اللاتينية والكاريبي وشرق آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ففيهم على الأقل 10 مليون شخص يعيشون بأقل من 5.5 دولار باليوم! هذا على مستوى البلدان، فماذا عن الفئات المهمشة والمضطهدة داخل المجتمعات المختلفة؟
العمال والسود الأكثر تضررًا وموتًا في أمريكا
يبدو وكما هو الحال في كل الأزمات والكوارث والحروب يتحمل الفقراء العبء الأكبر، ولكن الأمر تخطى مسألة الدخل المادي ليصل إلى مستوى تمييزي، فقد أوضحت ورقة بحثية نشرها موقع تابع لمجلس الشيوخ الأمريكي jec.senate أنه وبرغم أن الفيروس أدى إلى وفاة ما يزيد على 50 ألف أمريكي من جميع أنحاء الولايات المتحدة ومن جميع الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية ومن أصول مختلفة، إلا أنه أظهر وبشكل غير متوقع آثار السياسات التمييزية ضد كل من السود والعمال الفقراء في البلاد، ليقوم بتعرية التفاوتات الهيكلية الكبيرة داخل المجتمع الأمريكي. وتظهر الورقة أن الأمريكيين الفقراء والعاملين الفقراء هم الأكثر تعرضًا لأمراض كارتفاع ضغط الدم وأمراض الرئة والسكر والقلب، وتبين أن 9 من كل 10 من مصابي كورونا هم من أولئك الفئات المحرومة.
كما ترجح الدراسات أن احتمالية أن يعيش الأمريكييون السود في الفقر ضعف احتمالية الأمريكيين البيض، وبالتالي فهم الأكثر عرضة للإصابة للفيروس ويموتون جراءه. كما أشار تقرير لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها أن ثلث الذين تم إدخالهم إلى المشفى بسبب الفيروس كانوا من السود، وأن عدد الوفيات من السود جراء الفيروس، يبلغ ضعف عدد البيض بنيويورك. وهذا ومن المرجح أن العمال الفقراء عرضة للمرض بشكل أكبر نتيجة لعملهم بقطاع الخدمات كمساعدي الصحة المنزلية والعاملين بمحال البقالة وعمال المطاعم ومدبرات المنازل، وهذه وظائف يسيطر عليها كل من الأمريكيين السود واللاتينيين، أضف إلى ذلك انخفاض أجورهم ما لا يمكنهم من الحصول على أجازة مرضية مدفوعة، كما أن عملهم لا يتم القيام به من المنزل، ليس هذا فحسب بل إن معدل البطالة بين السود ضعفها بين البيض، كما أن السود لديهم ثروات مدخرة تصل إلى عشر ما لدى الأمريكي الأبيض، وبالتالي لا يوجد مدخرات تحميهم خلال فترات الركود.
نكتة تطبيق كورونا والتفاوتات بألمانيا
انتقد كثيرون تطبيق الكشف عن كورونا، حيث أنه يصلح فقط للهواتف الذكية الحديثة، وبالتالي مرتفعة السعر، واعتبروا ذلك نوع من إتاحة الفرصة فقط للأغنياء، أرى أن هذا تسطيح لقضية تأثير كورونا على الفقراء، فمن ناحية هناك العديد من محدودي الدخل خاصة بين بعض المجتمعات المهاجرة يقتنون أحدث الهواتف بغض النظر عن دخلهم (قد يكون هذا سلوك استهلاكي غير رشيد لكن هذا موضوع آخر) وبالتالي لا يعد تطبيق كورونا هو المؤشر الحقيقي لتأثر الفقراء في ألمانيا، خاصة أن التطبيق نفسه لاقى معارضة بالبداية بسبب حماية البيانات، كما أن العديد من الألمان لا يحملون هواتف ذكية، ليس بسبب الدخل المادي، لكن حرصًا على الخصوصية. هناك فئات أخرى تأثرت وستتأثر وستدفع نحو الفقر بسبب التبعات الاقتصادية للفيروس، فقد أثارت الصحفية ماريا فيلدر بصحيفة تاغزشبيجل، قضية أكثر أهمية في هذا الصدد، وهي مشكلة الإسكان الاجتماعي، حيث يعيش العديد من أفراد العائلة الواحدة في شقق ضيقة، ومساكن اللاجئين، والعاملين في وظائف خدمية تجعلهم أكثر عرضة للعدوى، كالمسالخ والسوبرماركت وغيرها من الوظائف ذات الطابع الخدمي.. كل أولئك الذين ليس لديهم بيوتَا فاخرة يقضون فيها فترات الإغلاق والذين ليس لديهم سيارات خاصة ليتجنبوا استخدام المواصلات العامة! كما أكد الباحث بشؤون الفقر كريستوف بوترفيجا على أن الناس يتأثرون بدرجات مختلفة اعتمادًا على وضعم الاجتماعي والاقتصادي.
رفاهية العمل من المنزل
وفقًا لفيلدر، أظهرت ورقة صادرة عن المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية أن 35% فقط من القوى العاملة استطاعوا انجاز العمل من المنازل، وهم يعدون من أصحاب الدخول المرتفعة، وبالتالي أصحاب الدخول الأقل والتعليم الأقل كانوا أكثر عرضة للإصابة بسبب طبيعة عملهم التي اقتضت منهم الخروج، ورغم أن الفروق بألمانيا لا يمكن مقارنتها بما عليه الحال بالولايات المتحدة لأسباب كثيرة، لكن مازالت هناك فئات هي الأكثر تضررًا هنا، فأولئك الذين يحصلون على إعانات البطالة Hartz IV زادت لديهم معدلات المخاطرة، وأولئك الذين كانوا يعملون بعقود مؤقتة أو يعملون لحسابهم أو فقدوا وظائفهم بسبب الجائحة، سوف يعانون كثيرًا وفقًا للتقارير المعنية، أضف إلى ذلك أصحاب الدخول المحدودة والذين يتأثرون بشكل أكبر نتيجة عدم تمكنهم من شراء الأغذية ذات القيمة الغذائية العالية، وبالتالي تأثر جهازهم المناعي وتعرضهم للأمراض المزمنة، ومن ثم يكونوا أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.. بناءً عليه عبر بوترفيجا عن خشيته من أن كورونا سوف يزيد معدلات الفقر..
ختامًا كورونا لم يصنع الفقر، لكنه فضح اهتراء هيكلية العالم وعدم توازنه واختلال موازين العدالة فيه..