20/08/2019

مسلسل حكاية أمة.. فانتازيا تعكس الواقع!

هل تساءلتِ يومًا كيف تكون المرأة في ظل النظم الثيوقراطية؟ هل سمعتِ عن بعض الجماعات الدينية المتشددة التي لديها رؤية للمرأة تتصف بالدونية وتراها مجرد وسيلة للإنجاب؟ هل خطر لك يومًا أن ما يسمى بالـ “التعفف” يمكن أن يصبح واجب وطني يفرض على كل من النساء والرجال لتحويل النساء لمجرد آلة للإنجاب والرجال لوسيلة للإخصاب محرمُ عليهما الشعور بالمتعة؟ هل تخيلت كيف كان القمع في ظل النظم الفاشية والنازية خلال النصف الأول من القرن الماضي ومعسكرات العمل في الستينيات من نفس القرن في بعض النظم الشيوعية؟ كيف يمكن أن يكون شكل الشوارع في مجتمعات كهذه؟ لون الشجر؟ كيف سيبدو البشر الذين فرضت عليهم تبني أفكار معينة وكادت أن تصبح عقولهم نسخًا مكررة فارغة من أي محتوى حقيقي؟

كل هذه التخيلات جمعتها لنا الكاتبة والشاعرة النسوية الكندية مارجرت آتود في ملحمتها الديستوبية “حكاية أمة” The handmaid’s tale والتي تم تحويلها إلى مسلسل عرضت آخر حلقات الموسم الثالث منه مؤخراً، وهو ما قالت عنه مؤلفة الرواية جملتها الشهيرة: “عندما كتبت حكاية أمة، لا شيء مما ورد في القصة لم يحدث في الحياة الواقعية في مكان ما في وقت ما”.

الاغتصاب المقدس!

“فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب، غارت راحيل من أختها، وقالت ليعقوب: هب لي بنين وإلا فأنا أموت. فحمي غضب يعقوب على راحيل وقال العلي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن، فقالت هوذا جاريتي بلهة، أدخل عليها فتلد على ركبتي وأرزق أنا أيضًا منها بنين. فأعطته بلهة جاريتها زوجة، فدخل عليها يعقوب، فحبلت بلهة وولدت ليعقوب أبنًا. فقالت راحيل قد قضى لي الله وسمع أيضًا لصوتي وأعطاني ابنًا”. سفر التكوين 30: 1-6

بهذه الآيات تفتتح “مراسم” تخصيب القائد للجارية، فيتلو القائد فريد وترفورد (جوزيف فاينس) الذي يرتدي بذلة سوداء، بينما تجلس زوجته سيرينا جوي (إيفون ستراهوفيسكي) في ردائها الأزرق على كرسي، وتقف الخادمة “المارثا” ترتدي رداء الخادمات الأخضر أو الزيتي وقد يحضر سائق القائد أيضًا واقفًا، وفي وسط الغرفة التي تتسم بطابع مظلم ومحافظ وخالي من أي لمحة للجمال تجلس الجارية أو الأمة جون أوزبورن (إليزابيث موس) تضع ركبتيها على وسادة خافضة رأسها مرتدية رداءًا أحمر ناثرة ذيله خلفها. بعد ذلك تذهب الجارية والزوجة والقائد إلى غرفة نوم القائد لتصعد الزوجة إلى السرير وتضع رأس الجارية بين فخذيها والتي قامت العمة ليديا (ذات الرداء النازي البني في وقت سابق بالتأكد من أنها في فترة خصوبتها)، تقوم الزوجة بتثبيت الأمة بينما يقوم الزوج باغتصابها على ألا يلمسها بيديه أو حتى ينظر إليها، في مشهد لم يتم تحميله ولو لثانية واحدة أي معنى من معانِ المتعة.

هكذا هي جلعاد، واقع مخيف يزداد توحشًا لينفي النساء غير الخصبات والمثليات اللائي يرتدين الرمادي إلى المستعمرات لنزع النفايات السامة ويطلق عليهن “اللامرأة”، مجتمع قائم على نظام هرمي عسكري ديني متطرف، يُنزع فيه الأطفال من أمهاتهم (الإماء) لينسبوا لزوجات القادة، ومن ثم تُنقل الإماء إلى قادة جدد كي يحملن بأبنائهم، الفتيات الصغيرات يتم تدريبهن لتصبحن جاهزات للمعاشرة بمجرد البلوغ بغض النظر عن أعمارهن، في مهمة لإرضاء الرب.

تسمية الأشياء بمسمياتها

لدى مشاهدتي لأولى حلقات “حكاية أمة” توقعت أن أشاهد قصة رجل يتعرق ذكورة وسلطة ونساء يحرقن بعضهن لأجل الفوز به، كأنهن مجموعة من الكائنات البدائية منزوعات العقل والإنسانية، مثلما رأينا في العمل الدرامي التركي الشهير “حريم السلطان” حيث مساحة الإعجاب الواسعة بأكثر الجواري شرًا وفتكًا ببقية النساء. تساءلت: لماذا تشاهد الكثيرات من النساء والفتيات ولعقود مثل هذه الأعمال الفنية ولا نغضب لما تحتويه من تحقير للمرأة؟ ربما تزيين القبح هو السبب، قصور فخمة ورجال ذوي سلطة خرافية ونساءُ يرتدين العقيق والحرير، ومحظيات يرتقين إلى مستوى ملكات، وألوان مبهجة وعرض كيد النساء على أنه مصدر القوة الوحيد الذي منحه الله للمرأة، وسياق درامي يؤصل لمشروعية وبديهية استعباد المرأة.. وهذا هو الفارق، ففريق عمل “حكاية أمة” قتل نفسه إبداعًا لتصلنا التوصيفات الحقيقية للأفعال، فالاغتصاب اغتصاب، والقمع قمع، والذل ذل، وهو ما قد يلفظه البعض، فدائمًا هناك مبررات ومسميات لكل الأفعال القبيحة خاصة عندما يتعلق الأمر بالمرأة، وهذا قد يفسر عدم وجود شعبية لحكاية أمة في العالم العربي بنفس الوقت الذي أصيب الجميع بالهوس بمسلسل “صراع العروش” لأنه لم يضغط على المشاهد إنسانيًا ولا أخلاقيًا، فانتهاك النساء برر بسياقات وحشية عاناها الجميع.

خائنة نوعها في مواجهة الناجية

يشهد المسلسل في فصوله الثلاث تطورًا نوعيًا في شخصيات البطلتين الرئيسيتين، زوجة القائد سيرينا جوي وخائنة نوعها (كما أطلقت عليها إحدى صديقات جون وهو توصيف تستخدمه جلعاد لوصم من لا تريد الانجاب أو المثليات) وهي النسوية المسيحية المتدينة والكاتبة اللامعة في أمريكا ما قبل جلعاد، والتي استجابت لما عاناه العالم من عقم (كانت هي وزوجها ضحايا له أيضًا) بإعدادها لمشروعها الفكري حول “الخصوبة كمورد وطني” والتكاثر كضرورة أخلاقية، لتصبح هي وزوجها فريد وترفورد موظف التسويق المغمور من مؤسسي جلعاد التي أصبحت هي كامرأة إحدى ضحاياها، تثير سيرينا في المشاهد أقصى مشاعر الاشمئزاز خاصة عند قيامها بمساعدة زوجها باغتصاب جون الجارية وغيرها من الجرائم الجنسية، ثم تستشرف فيها بعض الأمل عند محاولتها الحقيقية للتمرد، على الجانب الآخر تقف الجارية جون أوزبورن والتي بالطبع نعرفها باسم القائد الذي يخصبها أوفريد، هي مجرد شخصية سلبية غير متمردة يمكن وصفها فقط بالناجية، يمكن للمشاهد أن يقف مندهشًا من قدرة جون (إليزابيث موس) على نقل التطور البطيء في شخصيتها فقط من خلال عينيها، أرتنا فقط بعينيها كم هي منتَهَكة وغاضبة وتنتظر الانتقام لدى قيام القائد بمعاشرتها، وكيف تحني رأسها وتتذلل لتجنب نفسها خطر النفي أو القتل أيضًا بعينيها فقط، وكيف تحولت إلى إنسانة مختلفة تمامًا فقط بعينيها. تنشأ بين البطلتين علاقة غاية في التعقيد تتراوح ما بين الكراهية والرغبة في إفناء كل منهما الأخرى وما بين التعاون والتضامن في أقصى درجات توحش جلعاد.

بارقة أمل..

يعاني المسلسل بعض المشاكل، أهمها إغفاله فترة هامة دون معالجة درامية كافية وهي فترة التحول من أمريكا التي نعرفها إلى جلعاد، عدا فقط بعض مشاهد تطورالأحداث وهو ما أعتبره خللًا دراميًا يترك المشاهد غير راض عن الحبكة الضعيفة لهذه الفترة. يأتي بعد ذلك الملل والذي أظن في جزء منه نراه في أداء كل من سيرينا وجون، وجزء آخر خدم العمل نفسه وهو ما يتعلق بشكل المنازل الخالية من الموسيقا واللوحات وأي سمة جمالية وشوارع المدن شبه الخالية سوى من الحراس والعيون، والنهر الكئيب والغيوم المستمرة.. لكن رغم ذلك يبدو أن كل من المؤلف بروس ميللر والمخرج وارن لايتلفيد لم يريدوا بعد كل هذا البؤس على مدارس ثلاثة مواسم أن يتركوا المشاهد بلا أية بارقة أمل، فالجوار والخادمات لم يجعلن من الرجل هدفًا، بل اتحدن تحت قيادة جون التي تركت أخيرًا مقعد الناجية لتقود أكبر عملية تهريب للأطفال من جلعاد، كما أن التمرد والثورات ليس دائمًا نتيجته الخراب ولا تُجَن النساء كما حاول “صراع العروش” أن يقول لنا، بالإضافة إلى أن الجماعة الدولية ليست مكونة من دول كلها تبحث فقط عن مصالحها وصفقاتها الاقتصادية على حساب شعوب دول أخرى، كما نراه في واقعنا، بل إن دولة كندا وبعد فترة من السلبية واكتفائها بدور المضيف الجيد للاجئين الأمريكان، قررت أن تفعل شيء.