الطريق بالقطار من برلين إلى فرانكفورت أودر ليس طويلًا، لكنني غادرته قبل الوصول إلى وجهتي بمحطة، سألت زوجين خرجا لتوهما من القطار معي، فأوضحا لي أنني أخطأت وكان علّي المتابعة للمحطة التالية، ثم عرضا أن يقلاني بسيارتهما بدلًا من الانتظار لساعة أخرى.. في الطريق تبادلانا أطراف الحديث بود، وما إن ذكرت سبب زيارتي “الصحفية” للمدينة، حتى توقفا عن الكلام، ولم يعلقا بكلمة واحدة ولم أشأ أن أزعجهما.. الآن أنا في العنوان الصحيح، فرانفورت أودر مدينة متوسطة تبلغ مساحتها 147.6 كم مربع، المارة هنا لا يبتسمون كثيرًا، البيوت صغيرة، للحظة شعرت أن سماء المدينة منخفضة.
ماذا حصل في فرانكفورت أودر؟
تعددت الروايات بخصوص حادث الاعتداء في أحد الملاهي الليلية بمدينة فرانكفورت أودر بولاية براندنبورج، فالرواية الرسمية على لسان المتحدث باسم الشرطة هناك كما ورد في جريدة مورجن بوست، أنه بعد مشادة كلامية بين اثنين من الشباب الألمان واثنين من الشباب العرب في ملهى فروش، قام الشابان العربيان بتهديد خصومهما بالقتل، ثم خرجا واستدعيا ما بين 10 إلى 12 صديق عربي (وفي مصادر أخرى من 15 إلى 20) وقاموا بالهجوم على زبائن المحل بقضبان حديد، وتحدثت بعض المصادر عن وقوع إصابات، كما أضاف النائب العام أولريش شيردنج بأن الشباب راحوا يرددون قول “الله أكبر”، كما وصف مدير النادي ديريك شوبه لمورجن بوست ما حدث بالحرب “حيث قام الشباب العربي بقذف المحل والزبائن بالحجارة، بينما كان الزبائن في حالة هلع”.
على الجانب الآخر يؤكد م.ن صاحب متجر في فرانكفرت أودر، على أن ظهور الأمر بهذه الصورة كان من صنيعة الإعلام وحب الناس في إضافة المزيد من عندهم، يقول: “تناقل الناس في البداية أخبار عن أن الشباب العربي اعتدوا بالسكاكين على رواد المحل وأراقوا الدماء وأشياء درامية أخرى كعدم قيامهم بإيذاء عامل أمن روسي لأنه صديق أحدهم”. وعلى الرغم من أن م. ن لم يكن موجود وقت الحادث إلا أنه لم يسمع ممن يعرفهم بأن ذلك هو ماحدث، ويضيف: “ما أعرفه أن الشباب المتشاجرين كان بينهم جميعًا مشكلة قديمة منذ حوالي عام، وعندما تقابلوا صدفة في الملهى الليلي تبادلوا الشتائم، وأخرج الأمن الشابين العربيين، الذين قاما باستدعاء بقية المجموعة وعندما عادوا منعهم الأمن من الدخول فكيف لهم برشق الزبائن بالحجارة؟”.
حقيقة ما حدث هو شأن منظومة العدالة
في الحقيقة أنا غير مهتمة بتفاصيل ما حدث منذ عام أو في ليلة الهجوم، خاصة في مشكلة مماثلة، فالتحقيقات والبحث وراء التفاصيل هي مهمة الشرطة، بعدها تأخذ العدالة مجراها. ما يهمني هنا هو شيء آخر، وهو التصريح لعمدة المدينة رينيه فيلكه، والذي كان بمثابة تصريح صادم كونه جاء من قيادة سياسية يسارية! حيث نادى بترحيل المتهمين بالعنف من اللاجئين. فكيف له بهذا التصريح المخالف لخط حزب اليسار تمامًا؟ وما هو الدافع وراء ذلك؟ وكيف هو الوضع في فرانكفورت أودر؟
“هل سيرحل المجرمين من الألمان إلى بولندا”؟
بهذا التساؤل عبر توماس كلان من مبادرة Vielfalt statt Einfalt استغرابه من تصريح عمدة المدينة رينيه فيلكه، يقول كلان والذي يعمل مع اللاجئين منذ عام 2014: “هذا التصرف ينطلق من أساس عدم المساواة بين الناس هنا، فإذا ارتكبت أنا كألماني جرم ما، لن تأتي الشرطة وترسلني إلى السويد أو بولندا عقابًا لي”، وذكر كلان بأنه تحدث مع رينيه فيلكه ورد عليه الآخير قائلًا: “نعم أنا من اليسار لكنني عمدة لفرانكفورت أودر وهناك العديد من الناس يحتاجون لأن يفهموا ما يحدث”. يتفهم كلان موقف فيلكه وبأنه كان يحاول إرسال رسالة لطمأنة مواطني فرانكفورت أودر بأنه لا يقبل مثل هذه الحوادث، وأن لديه خطة لكي يكون الجميع آمنين بما فيهم اللاجئين، “لكن تكمن المشكلة الأساسية هنا في حال تعذر ترحيل المجرمين من اللاجئين، خاصة من السوريين لأنه من غير القانوني ترحيل السوريين نظرًا لكون بلادهم منطقة غير آمنة، عندها سيستغل اليمين المتطرف الموقف وسيحرض بقية الناس لخلق المشكلات” أضاف كلان.
لماذا يتواصل عمدة المدينة مع الإمام؟
بمجرد أن علم رينيه فيلكه بالحادث قام بالتواصل مع الإمام محمد زكريا، يقول محمد: “تعد صلاة الجمعة هنا هي أكبر تجمع تقريبًا للمسلمين من اللاجئين الذين يعيشون في فرانكفورت خاصة السوريين منهم، وتعودت أن أقوم أحيانًا بعد الصلاة بتوضيح بعض القواعد والقرارات الصادرة عن العمدة كوني أتحدث الألمانية”. ويرى محمد أن المشكلة الأساسية في فرانكفورت أودر تكمن باختلاف الثقافات بين كلٍ من القادمين الجدد وأهل المدينة وعدم فهم كلا الطرفان لبعضهما البعض. كما أن الشباب الصغير من اللاجئين لا يتحملون استفزاز البعض من اليمين لهم، مثل توجيه الشتائم.
مشكلة الشباب اجتماعية أم مشكلة هجرة؟
يجيب توماس كلان بأنها مشكلة اجتماعية في المقام الأول، فمجموعة الشباب المتهمين بالهجوم بالأساس ليس لديهم مكان بداخل المجتمع العربي في فرانكفورت، لديهم مشكلات مختلفة مع المخدرات والعنف وخبرات سيئة في ألمانيا وفي البلدان التي جاءوا منها أيضًا، كما أشار أن أكبر مشكلة تواجه بعض هؤلاء الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 22 عام هي مشكلة الانتظار الطويل لقرارات لم الشمل بالإضافة للبعض الآخر الذين لديهم مشكلات مع عائلاتهم هنا. يضيف كلان: “تحدثت مع حوالي 15 شاب آخرين كان قد تم استدعائهم من قبل الشرطة بسبب هذه الواقعة وأكدوا على عدم وجود أي علاقة لهم بالمتهمين، ولكن لديهم مشكلة أخرى مع الشرطة، فبعضهم تم القبض عليهم لأنهم كانوا يتحدثون بصوت عالِ في الشارع، فقام بعض الألمان باستدعاء الشرطة، شاب آخر كانت سيدة ألمانية تقول له شيء لم يفهمه فراح يسأل آخر يقف بقربه ليترجم له، فقامت السيدة باتهامه بأنه ينادي على آخر كي يضربونها، وآخرين تورطوا في المشكلات بسبب قيام بعض الشباب الألمان بسبهم بأمهاتهم وهي شتيمة تستفز الشباب العربي”. ثم أضاف توماس من واقع خبرته الشخصية خلال استضافته لفتاة سورية محجبة تعيش في منزله منذ ثلاث سنوات، أنه لاحظ مؤخرًا الكثير من التصرفات العنصرية تجاهها وأحيانًا تكون بصحبته هو وشريكته، مثل أن يسبها أحدهم أو أن يشير لها بإشارة الإصبع الشهيرة”.
ماذا يقول الآباء للأبناء؟ هذا مهم
م. ن لديه خبرة مختلفة ربما تمثل الوضع في المدينة، إذ يرى صاحب متجر الأثاث أنه يوجد مشكلة أعمق متعلقة بما قد يقوله الآباء والأمهات لأطفالهم: “إبنتي 12 سنة جاءت لها زميلتها في الصف وقالت لها الآن أنا أفهم أنكم كسوريون هنا بسبب الحرب في سوريا، لكن إلى أين سنذهب نحن الألمان عندما تكون الحرب بينكم وبيننا”، مضيفًا: “لولا الأصدقاء الألمان الذين يقفون معنا ويدعموننا كثيرًا منذ وصلنا إلى البلدة، لكنا عانينا كثيرًا هنا”.
أما محمد زكريا فقد انتهج الصبر مع جاره الذي ظل يفصل الكهرباء عن شقته لمدة عام: “أفضل التحلي بالصبر في مثل هذه المواقف، فقيامي بتحرير محضر ضد جاري سيعرضه للمسائلة القانونية بما قد يؤدي إلى مزيد من الكراهية تجاهي، كما أن قيامي بمواجهته قد تكون عاقبته تورطي أنا في مشكلة أكبر معه، تركته يقوم بذلك لمدة عام حتى توقف وحده”. هكذا يحب محمد أن يرد على الإساءة، مضيفًا: “لكن الشباب الصغير في الأغلب لا يستطيع تحمل الشتائم والإهانة”. كما أكد على أن الأمور آخذة في السوء خاصة منذ أحداث كيمنتس.
هل سيؤدي الترحيل إلى حل المشكلة؟
يجيب توماس: “لا، لن تحل المشكلة، وظيفتنا هي العمل مع الناس، من السهل القول بأنهم ضيوف هنا في ألمانيا وبالتالي يتم إرسال من يرتكب جرم منهم إلى بلده، ولكن يجب أن نحاكم الناس ويدخلو السجن وبعد أن يخرجوا يبقى علينا أيضًا أن نعمل معهم، وعندما تحدثت مع الشباب لاحظنا أنهم بالفعل ليس لديهم من يتحدثوا إليه أو يقدم لهم المساعدة، هم يعانون ضغوطًا كثيرة ووظيفتي هي محاولة تخفيف هذا الضغط وعدم وضعهم جميعًا في صندوق واحد، كما أن معظمهم في عمر المراهقة وبالتالي ينفعلون عندما توجه لهم الشتائم.
العمل مع الناس من كلا الطرفين
وحول ما يمكن عمله تجاه ذلك، أكد توماس أنه لا يتوقف عن العمل، فهو ينظم ورش عمل في المدارس ليتحدث مع الأطفال والشباب الألمان، بالإضافة لإشراك الطرفين في أنشطة كي يتمكنوا من معرفة بعضهم البعض، أما فيما يتعلق بالراشدين من الذين لديهم توجه عنصري، يقول: “عندما يبدأ نقاش مع أحد من المعادين للاجئين لا أهرب من النقاش ولكن أتحدث وأخبرهم عن خبرتي ونظرتي للأمور، بالطبع لا يمكنني تغيير عقولهم، ولكن الحديث والنقاش وتكراره سيجعلهم يفكرون في الأمر، وإعادة التفكير ستغير آرائهم الآن أو لاحقًا”.
انتهيت من عملي في المدينة وبحلول الساعة السابعة كنت أسير ولمدة 15 دقيقة في شوارعها بطريقي إلى محطة القطار، الهدوء الذي يخيم على كل شيء، يخرقه صوت الترام أو السيارات، كنت أستطيع سماع صوت أنفاسي أثناء سيري ببعض الحارات، ربما لهذا يعد ارتفاع صوت الشباب في الشارع جريمة تتطلب استدعاء الشرطة وتحرير محضر بالواقعة، لو كنتَ من سكان المدينة لأمكنك تمييز وجوه الزوار، ولفكرت وتساءلت من يكون هذا الزائر؟ هل هو شخص لطيف؟ ماذا يريد؟
أحاول تفهم الموقف هناك، مجموعة من الشباب يؤرقون أهل المدينة والبعض الآخر يرتكبون جرائم العنف، لكن يبقى التساؤل الموجه لعمدة المدينة فيلكه: هل يعجز القانون والعدالة الألمانية عن إيجاد طريقة للتعامل مع 15 لاجئ من مجموع 1372 لاجئ من أصل 5934 أجنبي من إجمالي 58 ألف و500 شخص يقطنون المدينة؟ أتساءل حول وجود مادة في القانون تعاقب مجموعة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 22 قاموا بالهجوم على أحد الملاهي عقب مشادة كلامية بينهم وبين مواطنين ألمان؟