نستعرض معكم اليوم، فيلم “لا تلمسني” دوكيودراما من فئة الأفلام المنافسة لجائزة مهرجان برلين السينمائي الدولي، إخراج الكاتبة والمخرجة الرومانية أدينا بينتلي، وإنتاج (روماني ألماني تشيكي بولغاري فرنسي) مشترك. الفيلم أثار جدلًا كبيرًا بين مؤيد جدًا ومعارض جدًا، وبين أناس ظلوا حتى الدقيقة 205 من عرضه، وآخرون غادروا بعد أول نصف ساعة من العرض لعدم تحملهم مشاهد العري واللقطات الإباحية.
يتناول الفيلم عدد من القضايا المتعلقة بالعلاقات الإنسانية بشكل عام، والعلاقة الحميمية بشكل خاص، بالإضافة لمحاولة كسر بعض الأفكار النمطية حول مقاييس الجمال، وذلك من خلال رحلة السيدة لورا بينسون لاكتشاف جسدها ومحاولة التصالح معه، حيث ترفض أن يلمسها أحد وتكتفي فقط باستئجار بعض الرجال العاملين في الدعارة للتعري أمامها دون أن تقوم بلمسهم مع احتفاظها بكامل ملابسها، لتكتفي بمجرد استنشاق الفراش بعد مغادرتهم.
لا تلمسني: نعم ولا
عندما قرأت إسم الفيلم في الإعلانات لأول مرة تخيلت أن له علاقة بحملة #أنا_أيضًا أو يتناول قضية التحرش، لكن الأمر مختلف تمامًا، فالمخرجة تتحدث عن نوع آخر من اللمس، عن إمكانية العلاج باللمس، من خلال قيام أحد المعالجين باليوغا بعلاج مجموعة من الرجال والنساء من ذوي الاحتياجات الخاصة والإعاقات الجسدية أو ما يسمى بـ “التشوهات” باستخدام أسلوب العلاج باللمس مع كل من توماس ليماركس (الذي يعاني من فقدان كل شعره نتيجة مرض ألم به) وكريستيان بايرلين (الذي يعاني من شلل رباعي وضمور في العضلات وتشوه في الفك وعدم تحكمه في لعابه) بتوجيههما للمس وجوه أحدهما الآخر بروية خاصة أماكن التشوهات لاكتشاف أرواح بعضهما البعض. وبالفعل يستطيع كل منهما إعطاء انبطاع ما عما قد يشعره أو يعانيه الآخر من خلال القيام بذلك، بل وقد وصل التفهم والتقبل بتوماس أنه كان يساعد كريستيان في تجفيف فمه دونما أن يظهر امتعاضه.
الجمال في أن يكمل بعضنا بعضًا
يقوم الفيلم على فكرة أساسية وهي تحدي ما يسمى بـ “مقاييس الجمال” وذلك من خلال بعض المناقشات التي تحاول القول بأنه لا يجب أن يكون لديك ما يسمى بـ “الجسم أو الشكل المثالي” حتى تستمتع بحياتك الخاصة، ويعد كريستاين بايرلين بكل إعاقاته وتشوهاته مثال على ذلك، فأنت عندما تنظر إليه قد ينتابك شعور بالشفقة، فهو رجل لا يتحرك، جسمه ووجه “مشوهين” لكن عندما سئل ما هو أكثر جزء في جسدك تحبه أجاب بأنه يحب شعره لأنه طويل وجميل، ويحب عينيه، ويحب ما يجعله يعيش علاقة حميمة سعيدة للغاية مع زوجته “جريت أولمان” التي تتميز ببنية جسدية ضخمة لأنها تحمله وتساعده على الحركة، وهذه نقطة أعلن كريستيان وجريت أن هذا هو أهم ما يميزهما، فهما ليسا متشابهان وهذا لا يهم البتة، لكن الأهم أن كل منهما لديه ما يحتاجه الآخر، لذا يكمل بعضهما بعضًا، هناك أيضًا المعالجة “حنا هوفمان” المتحولة جنسيًا والتي ما زال جسدها ما بين رجل وامرأة ولا يمكن وصفه بـ “المثالي” كما هو متعارف عليه، لكنها ومع ذلك تتقبل نفسها تمامًا، وتستخدم الموسيقى خاصة موسيقى برامس لعلاج لورا.
الحب أسطورة
طوال الفيلم تطرح المخرجة أدينا بنتلي والمشاركين في العمل تساؤل رئيسي مفاده: كيف يمكن أن نحب دون أن نفقد ذواتنا؟ لتنتهي المخرجة في النهاية إلى أن الحب يعد بمثابة أسطورة يعيق الوصول لها الغضب والخوف وعدم تقبل الذات والعديد من المشاعر السلبية على رأسها الخوف من فقدان الحبيب. ويتحقق الحب بالتحرر التام من كل المخاوف ومن كل المحرمات. ويؤكد العمل على قيمة أن كل إنسان من حقه أن يمارس حياته الخاصة بالطريقة التي يختارها طالما أنه لا يؤذي نفسه أو الآخرين جسديًا أو نفسيًا. ويظهر هذا المعنى من خلال عرض مشاهد في أحد الحانات لفتاة معلقة بشكل مخيف ولكنها سعيدة بذلك بل وذلك هو ما يحقق متعتها، في مشهد يقول أنه لا حدود ولا أطر لأي شيء طالما أنك سعيد ولا تؤذي الآخرين، فقد تكون حريتك في أن تكون مقيدًا. وهذا معنى في الحقيقة ملتبس، فماذا لو مددنا الخط على طوله وافترضنا أنه هناك أمة بأكملها أرتضت لنفسها العبودية والذل هل يعد هذا التصرف من قبيل الحرية؟ أم على الآخرين التدخل لتحريرهم؟ وهذا يفتح المجال أمام نقاش لا نهاية له لالتباس المفاهيم وتداخلها فكم من أمم سلبت ثرواتها واستعبد أبناءها تحت دعوى تحريرها.
فيلم إباحي أم فيلم جريء
بعيدًا عما قد أضعه أنا لنفسي من حدود وما قد تراه أنت صحيحًا ومتناسبًا مع شخصك، لا أرى الفيلم “إباحيًا”، فمشاهد العري في الفيلم كانت موظفة تمامًا لتظهر ما نسميه نحن “تشوهات” وكانت الرسالة هي أن تجعل عين المشاهد ترى الجمال فيما قد اتفقت المجتمعات على اعتباره تشوهًا. بالطبع هناك إفراط في المشاهد الجنسية كان من الممكن إفهامنا بشكل أو بآخر أنها تحدث، لكنه يظل فيلمًا يحاول أن يوصل رسالة بأن المتعة الجنسية قد تكون عوضًا مرضيًا للكثيرين عما يراه الآخرون فشلًا أو عجزًا أو تشوهًا.
يبقى أن نقول: كما كان للمخرجة الحق في عرض ما تعتنقه من أفكار بهذه الجرأة التي جاءت صادمة حتى لشريحة كبيرة من الألمان، فلك أنت أيضًا عزيزي القارئ كامل الحق في ألا ترى هذا النوع من الفن وألا تجرب هذا النمط من الحياة وأن تظل محافظًا على قناعاتك الخاصة.
أمل برلين | قراءة وإعداد: أسماء يوسف
Photo: Asmaa Yousuf