Foto: @Amloud Alamir
01/07/2025

صيدنايا.. سجنٌ بذاكرة لا تموت!

كان الشاب الواقف عند مدخل سجن صيدنايا يحمل سلاحه مسترخياً على كتفه. سألته عمّا يشعر به وهو يقف اليوم عند نقطة التفتيش التي كانت في الماضي تحرمُه – كما حرمت كثيرين غيره – من الوصول إلى أي معلومة عن أحبائهم، فأجاب بهدوء: “الله يرحم أبي.” لم يقل شيئاً أكثر من ذلك، لكن تلك العبارة كانت تختصر كلّ الألم الذي يحمله آلاف السوريين الذين فقدوا أحدهم في صيدنايا.

Amloud Alamir@

Amloud Alamir@

ركبت الحافلة متوجهاً إلى السجن، كنت أبحث عن جزء من تاريخ بلدي. في الطريق، بدأت الخوف يتسلل إلى قلبي كخيط دخان يرتفع ببطء في غرفة مغلقة. الخوف الذي ينمو من آلاف القصص التي يتداولها أبناء وطني حول هذا المكان. كانت الطريق تبدو أبطأ من المعتاد، كأنني لا أتوجه إلى سجن، بل إلى قبرٍ صامت.

أوقفني الشاب المسلح، ورافقه زميله في تفتيش أوراقي. لم تكن رسالة وزارة الإعلام التي بحوزتي كافية لدخولي، فكان عليّ الانتظار في الخارج إلى حين صدور موافقة وزارة الداخلية أيضاً. وهكذا بدأنا نتبادل الحديث. أخبرني أنه كان يقاتل سابقاً في إدلب مع “هيئة تحرير الشام”، وأن اعتقال والده في صيدنايا هو ما دفعه لحمل السلاح بدافع الغضب. لكنه اليوم، كأي شاب في عمره، لم يعد يريد سوى أن يدرس، أن يعيش، أن يحلم. قال لي: “أريد أن أدرس الجغرافيا وأسافر حول العالم.”

بينما كنا واقفين هناك، استعدتُ في ذهني الأيام التي أعقبت سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024. كانت أياماً مؤلمة، كنا ننتظر بفارغ الصبر ظهور مقاطع الفيديو التي توثق أقبية السجن وغرفه السرّية. كنا نحلم بأن يُفتح باب، ويخرج منه ابن أو أب أو صديق. لكن حتى اليوم، لا أحد يعلم إن كانت هناك أبواب لم تُفتح بعد. وإن وُجدت، فكم روحاً قضت في الظلمة خلفها؟

نعم، أُفرج عن آلاف السجناء. لكن كثيرين منهم خرجوا بلا ذاكرة، مشوشين، أو محطّمين نفسياً. ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في عام 2019، فإن 65% من المفرج عنهم من السجون السورية يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، و40% منهم يعانون من فقدان مؤقت للذاكرة.

وأخيراً صدرت الموافقة. أسرعت إلى المبنى، دخلت الزنازين أبحث عن قصصٍ تحكيها لي قضبانها. في إحدى الزنزانات وجدت طرفاً صناعياً مرمياً على الأرض. تخيّلت صاحبه وهو يقفز بساق واحدة، مستنداً إلى أحدهم – أو ربما زاحفاً. ما كان مؤكداً هو أنه لم يجد وقتاً لارتداء الطرف الصناعي حينما طرقت الحرية باب زنزانته. ذلك الطرف كان رفيقه لفترة طويلة.

الزنازين الانفرادية الكثيرة في القبو، وقد غزت جدرانها العناكب – لم ينبعث منها إلا الموت. الرائحة الخانقة كانت تخنق كل فكرة تراود رأسي. كانت غرف التعذيب على الأرجح قريبة، لكني لم أتمكن من العثور عليها. ركضتُ صاعداً إلى الأعلى بحثاً عن الهواء – وهناك فجأة شممت رائحة خبز. أدهشني كيف استطاع عقلي، وسط هذا الكآبة، أن يستحضر لي عبق الحياة والذكريات الجميلة.

مشيتُ خطوات قليلة – وإذا بي أجد فعلاً مخبزاً صغيراً. أكياس الطحين مبعثرة على الأرض. لم تكن الرائحة وهماً – كانت حقيقية. لم يكن عقلي وحده من يحاول إنقاذي.

صيدنايا ليست مبنى … بل جرح في جسد الوطن

Amloud Alamir@

Amloud Alamir@

جلست على حجر خارج المدخل، أحاول أن ألتقط أنفاسي، أن أحرر صدري من ثقله. عيني وقعت على أغطية كثيرة مبعثرة – تذكرت حينها أيام الانتظار الطويلة التي قضتها العائلات في الخارج على أمل رؤية أبنائها. بعضهم التقى بهم مجدداً. وآخرون رحلوا بصمت – بلا صوت، بلا وجه.

في تلك الساعات وتلك الأيام، تسرب الأمل من بين أيدي بعض الأهل كما يتسرب الرمل. لكن البعض تمسّك به – كما يتمسك برغيف الغد. إلا أن الخبز لم يكن متاحاً للجميع.

بعد بضع ساعات من التواجد في هذا المكان، حدث شيء داخلي. فكيف كان حال أولئك الذين مروا من هنا، سواء كانوا جلادين أو ضحايا؟ كلّ من وطأت قدمه هذا المكان، خرج بروح مثخنة بالجراح.

صيدنايا ليس مجرد سجن. إنه معسكر لألم أمة بأكملها – مكان ماتت فيه العدالة ونجت الوحشية. ربما تحرّر المبنى. لكن هل انتهى الألم؟ لا. لا يمكن لوطن أن يتعافى من جرحٍ بهذا العمق إلا إذا تحققت العدالة – وتلاها الحساب.

كنت قد سألت الجنديين عند المدخل إن كانا هنا منذ “التحرير”. أجاب الأصغر أنه استلم هذا الموقع قبل أسابيع فقط. نظرت إلى سلاحه وسألته سريعاً: “منذ متى تحمل السلاح؟” ضحك وقال: “منذ طفولتي.” سألته: “وماذا تريد أن تفعل الآن؟ هل ستبقى هنا؟” أجاب بابتسامة أوسع: “لا، بدأت الدراسة وأرغب في دراسة هندسة المعلوماتية في الجامعة.”

Amal, Berlin!
Privacy Overview

This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.