في لحظةٍ يتداخل فيها الحنين بالخوف، يغادر صحفي سوري ألماني أرض ألمانيا لأول مرة منذ عشر سنوات متجهاً نحو سوريا، لا كسائح أو زائر، بل كإعلامي يحمل في جعبته قصة هروب طويل، وهوية مزدوجة، ورسالة مهنية وإنسانية. يحمل صوت الحرية والتغيير من ألمانيا إلى وطن جريح ينتظر إعادة البناء. يقول: “إن الإعلام السوري الرسمي كان طوال عقود أداة ترويج ودعاية وتطبيل لمصلحة السلطة، لا صحافة حقيقية. ما أطمح إليه الآن هو نشر ثقافة إعلامية جديدة”.
ورشة إعلامية: جسر بين الداخل والخارج
يسافر الصحفي السوري روني درويش، المنحدر من مدينة حلب، في إطار ورشة عمل إعلامية تنظمها منصة “أمل الإخبارية” لتبادل الخبرات. لا يقدّم درويش نفسه كخبير أو مُعلّم، بل كشريك في عملية التعلُّم. الهدف هو مشاركة المعارف التي اكتسبها في ألمانيا مع صحفيين شباب في الداخل السوري. “نريد أن نبني جسوراً، لا أن نُنزّل وصايا من الأعلى”.
العودة إلى سوريا: بين الخوف والرسالة!
تحمل الرحلة المقبلة إلى سوريا، الأولى منذ سقوط النظام، بُعداً وجودياً عميقاً بالنسبة لروني درويش. ليست رحلة سياحية عابرة، بل استكشافية، وربما ذات طابع “إسعافي” على المستويين الشخصي والمهني. تتداخل في أعماقه مشاعر متناقضة: الحذر، والحنين، والإحساس العميق بالمسؤولية. يقول درويش: “أريد أن أساهم، أن أروي، أن أوثق. أن أُسمِع صوت من لا صوت لهم”.
رحلته هذه لا تمثل نهاية، بل يأمل أن تكون بداية لسلسلة من الزيارات، ولمسار مستقبلي يسهم من خلاله في إعادة بناء الذاكرة الجمعية والواقع الإعلامي معاً. “هذا أقصى ما أستطيع تقديمه لسوريا في هذه اللحظة.”

روني يوم سقوط الأسد
صحافة ما بعد النزاع: من الانبطاحية إلى الموضوعية
يرى درويش أن الإعلام الرسمي السوري، وعلى مدى عقود، لم يكن أكثر من أداة دعائية في خدمة السلطة، بعيداً كل البعد عن مفهوم الصحافة الحقيقية. ويؤكد أن ما يسعى إلى نقله للصحفيين الجدد والطلبة، هو ثقافة إعلامية ترتكز على المهنية، والحياد قدر الإمكان، والشجاعة في قول الحقيقة، وتسليط الضوء على مكامن الخلل أينما وُجدت، دون خوف أو خضوع لأي جهة، سواء كانت سياسية أو غير ذلك.
ماذا اكتسب من المجتمع الألماني؟
ومن القيم التي استخلصها من تجربته في المجتمع الألماني، والتي يتطلّع إلى مشاركتها، احترام حرية الصحافة، وأهمية استقلالية المؤسسات الإعلامية، والدقة في نقل المعلومة. فالصحفي، كما يوضح، لا ينبغي أن يكون تابعاً للدولة، بل رقيباً عليها.
وانطلاقاً من هذه القناعة، يرى ضرورة أن تكون وزارة الإعلام في حال وجودها كياناً مستقلاً تماماً عن الحكومة، من حيث البنية الإدارية والتمويل، وذلك تفادياً لتكرار التجربة الكارثية التي عاشها الإعلام السوري تحت سلطة الأسد، حيث تحوّلت الوزارة إلى مجرّد بوق للنظام البائد.
رحلة اللجوء والبدايات في ألمانيا
بدأت قصة درويش عام 2015، حين غادر سوريا عبر طريق البلقان ووصل إلى ألمانيا بعد 26 يوماً من المشقة. مدينة باساو كانت محطته الأولى، وهناك بدأ من جديد. تعلم اللغة، وانخرط في الدراسة الجامعية، واختار الإعلام شغفاً ومهنة. “الإعلام يشبهني، لأنه فنّ قبل أن يكون نظرية. أنا بطبيعتي شخص فنان، ولذلك شعرت أن هذا المجال هو مكاني الطبيعي”. لم تكن الرحلة المهنية سهلة. فاللغة الألمانية، رغم سنوات الدراسة، بقيت تحدياً دائماً. “هي لغة فلسفية ومعقدة، والعمر أقصر من أن نتقنها بالكامل”، يقول مبتسماً. على الصعيد المهني، شكّلت اللغة حاجزاً رئيسياً أمامه، إلى جانب محدودية سوق العمل الإعلامي ومظاهر التمييز والعنصرية. يقول: “الإعلام مجال ضيّق، وفرصه محدودة هنا في ألمانيا رغم تنوعه الظاهري”!

جانب من شغف روني درويش بالرسم
لحظة التجنيس وعبء الهوية المزدوجة
يصف درويش حصوله على الجنسية الألمانية بأنها لحظة “فخر مشروع”، أشبه بجائزة تقدير لمسار طويل من العمل والاندماج، لا مجرد وثيقة. لم تُلغِ الجنسية إحساسه بالانتماء لسوريا، بل زادت من شعوره بالمسؤولية تجاه كلا البلدين. يقول: “أن تكون سورياً وألمانياً يعني أن تعيش بتعقيدات مضاعفة وضغط يومي قد يتحول إلى عبء نفسي أو جسدي”.