قد تقود رحلة مليئة بالتحولات أصحابها إلى تحقيق آمالهم وأهدافهم. وهو ما حدث لرئيف خليفة الذي بدأ رحلته بالنزوح عن وطنه ليصل إلى بناء مساحات آمنة لدعم اللاجئين نفسياً واجتماعياً. بين الغربة، والبحث عن الاستقرار، والانتقال من بلد إلى آخر، استطاع أن يحوّل تجاربه الشخصية إلى مصدر إلهام لمجتمعه، وأن يسهم في تمكين الآخرين من تجاوز محنهم. فكانت رحلته مزيجاً من التحديات والفرص.
النشأة: بين الغربة والعزلة
لكن غربة خليفة بدأت منذ طفولته عندما اضطر إلى مغادرة قريته مع عائلته، مما ترك لديه إحساساً دائماً بعدم الرضا. رغم أن قريته لم تكن بعيدة عن دمشق، إلا أنه شعر دائماً بالغربة، ورافقه هذا الشعور طوال حياته. “كنت أشعر منذ الصغر بغربة كبيرة. وكانت لدي غصة دائمة”.
الفن كوسيلة للبحث عن الذات
منذ طفولته كان لدى خليفة ميل إلى الفنون وبدأ حياته معها. لكنه لم يكن شغوفاً بالحصول على شهادة أكاديمية بقدر اهتمامه بالجانب العملي، فلم يكمل دراسة. وبحث عن طريق آخر. وفي نهاية المطاف، وجد نفسه قريباً من فن الموزاييك، وهو الفن الذي أتاح له، بحسب تعبيره، “القدرة على العودة إلى الماضي”. خاصة وأن لديه نفور واضح من التكنولوجيا، إذ لم يشعر أنه ينتمي إلى العصر الرقمي الحديث، بل كان يميل إلى الأشياء الحرفية التي تعكس التاريخ والهوية الثقافية.
الخروج من سوريا: بين الثورة والمنفى
مع اندلاع الحراك الشعبي في سوريا عام 2011، كان رئيف من الداعمين له، لكنه رفض اللجوء إلى العنف بأي شكل من الأشكال. وركّز جهوده على تقديم المساعدات الإنسانية. وفي نهاية عام 2012، أدرك أن البقاء في سوريا لم يعد خياراً آمناً، فرتّب أموره وغادر مع عائلته إلى الأردن.
في الأردن، عاش مع عائلته في مخيم خاص تديره دولة الإمارات، وهو ما أتاح لهم مستوى من الاستقرار لم يكن متاحاً في أماكن أخرى. وهناك بدأ العمل كمتطوع لمساعدة العائلات اللاجئة. ونظراً لأن مجتمعاتنا كانت ترفض الاعتراف بالمشاكل النفسية، لجأ المختصون إليه ليكون حلقة وصل بينهم وبين العائلات، فبدأ باستخدام الفن كوسيلة علاجية، خاصة من خلال تعليم الموزاييك. “بدأت عملي في مجال الصحة النفسية بالممارسة العملية مباشرة عبر هذا المشروع”.
الانتقال إلى تركيا: تحديات البحث عن الاستقرار
بعد قرابة عام ونصف من العمل التطوعي في الأردن، اضطر إلى مغادرتها. وانتقل إلى تركيا على أمل إيجاد فرصة حياة أفضل للعائلة، لكنه واجه صعوبات عديدة. حاول العمل في منظمات إنسانية لكنه اصطدم بما وصفه بـ”الشللية” التي تحكم هذه المؤسسات. لم يتمكن من إحضار عائلته، مما زاد من الضغوط النفسية عليه.
خلال تلك الفترة، “بدأت بتعلّم اللغة التركية، وعملت في مجالات مختلفة مثل مجال تجارة الألبسة، وحتى توزيع المياه، وهي تجربة أعتبرها رغم بساطتها مهمة ومليئة بالدروس. مع مرور الوقت، بدأت أفكر جدياً باللجوء إلى أوروبا، على أمل أن أجد هناك استقراراً أكبر لي ولعائلتي”.
الوصول إلى ألمانيا: بداية جديدة
كانت رحلة اللجوء إلى أوروبا محفوفة بالمخاطر، لكنه يصفها بأنها لم تكن صعبة مقارنة بالقصص المؤلمة التي سمع عنها. عند وصوله إلى ألمانيا، اختار مدينة هامبورغ بناءً على نصيحة المجموعة التي كان معها، نظراً لأن إجراءات الإقامة ولمّ الشمل فيها كانت أكثر وضوحاً وسرعةً.
في البداية، “كان عليّ أن أواجه التحديات المعتادة التي يمر بها كل لاجئ: السكن المشترك في مراكز اللجوء، إجراءات الإقامة، وانتظار لمّ الشمل. لكنني أدركت منذ البداية أن تعلم اللغة وبناء علاقات مع المجتمع الألماني هما مفتاح الاندماج، فركّزت على ذلك بشكل كامل”. خلال فترة تعلمه للغة، قرأ إعلاناً عن تدريب في مجال الاستشارات النفسية تقدمه مؤسسة “إبسو”. حاول التقديم لكن عدم امتلاكه شهادة أكاديمية حالت دون ذلك في البداية، “إصراري دفعني إلى التواصل المباشر مع المدير المسؤول، الذي منحني فرصة. وهكذا بدأت رحلتي في مجال الإرشاد النفسي”.
العمل في مجال الدعم النفسي والاجتماعي
على مدار ثلاث سنوات، عمل رئيف مع “إبسو” واكتسب خبرة كبيرة في مساعدة اللاجئين على تجاوز الضغوط والصدمات النفسية. ورغم صعوبة تقبّل اللاجئين لفكرة العلاج النفسي، إلا أنه كان يرى دوره في بناء الثقة وإيجاد مساحة آمنة للأشخاص ليتحدثوا عن معاناتهم. “الإرشاد النفسي ليس علاجاً، وإنما هو أن يجد الشخص مكاناً آمناً مع شخص موثوق ليحكي عن نفسه وليستطيع بنفسه إيجاد حلول تتناسب مع قدراته.”
بعد انتهاء فترة عمله مع “إبسو”، انتقل إلى مشروع آخر يركز على دعم اللاجئين ومساعدتهم على الاستقرار. في عام 2022، التحق بتدريب مكّنه من أن يصبح مدرباً معتمداً في مؤسسة CORESZON e.V.
المشاريع المجتمعية
ومن ضمن المشاريع التي يعمل عليها مبادرته إلى إنشاء مشاريع مجتمعية مثل “قهوة أبو الشباب”، وهو مكان يجمع الرجال والشباب في مراكز اللجوء لتشجيعهم على بناء علاقات اجتماعية. كما عمل مع زملائه على تطوير برنامج يعتمد على مجموعات دعم نفسي لمساعدة الأفراد على إيجاد مساحات آمنة للتعبير عن مشاعرهم.
التحق أيضاً بتدريب جديد هو برنامج StoP “أحياء خالية من عنف الشركاء”، والذي توزعت دراسته بين ألمانيا والنمسا. وهذا يدعم ويخدم ما عمل عليه خليفة دائماً. وخاصة في ظل تصاعد التوترات السياسية في ألمانيا، حيث رأى فيه أداة فعالة لمواجهة العنف المتزايد والكراهية المنتشرة.
وعلى مدار رحلته، استطاع رئيف خليفة أن يحوّل تجاربه الشخصية إلى مصدر دعم، ليس فقط لنفسه، بل لمن حوله أيضاً. رغم كل التحديات التي واجهها، ظل يؤمن بأهمية الاستماع للآخرين ومساعدتهم على استعادة توازنهم. يقول في ختام حديثه “من الجميل أن نتعلم كيف نسمع بعضنا البعض”.