تُعدُّ أسواق عيد الميلاد في ألمانيا من أجمل تقاليد الشتاء وأكثرها سحراً، وهي تقاليد قديمة تمتد جذورها إلى أكثر من ستة قرون مضت. وعلى مدى سنوات طويلة، تنافست مدينتا دريسدن وباوتسن شرقي ألمانيا على لقب “أقدم سوق عيد ميلاد في ألمانيا”، في نزاع حمل ضمن طياته روحاً من التحدي والاعتزاز بالإرث الثقافي. لكن المعهد الألماني للأرقام القياسية (RID) جاء ليحسم هذا الجدل بطريقة غير متوقعة ومثيرة للدهشة!
أسواق عيد الميلاد.. الأقدم توثيقيًا والأقدم تاريخيًا!
قسّم المعهد اللقب إلى فئتين: سوق “Striezelmarkt” في دريسدن، الذي تأسس عام 1434م، حاز لقب السوق الأقدم توثيقاً في البلاد. أما سوق “Wenzelsmarkt” في باوتسن، فقد توِّج بلقب الأقدم تاريخياً، بعد أن أشارت السجلات إلى وجوده منذ عام 1384م. ومع ذلك، فإن السؤال الذي يتجاوز مسألة الأقدمية هو: كيف استطاعت هذه الأسواق الحفاظ على سحرها وجاذبيتها عبر العصور، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة الشتاء الألماني، وتجذب الأنظار من مختلف بقاع العالم؟
تاريخ عريق
في البداية، نشأت هذه الأسواق كتقليد اجتماعي تجاري بحت لتلبية احتياجات السكان خلال فصل الشتاء البارد. حيث كان يباع فيها السلع الأساسية للسكان، مثل اللحوم والخبز والتوابل. وخلال القرن السابع عشر والثامن عشر، بدأت أسواق عيد الميلاد تأخذ طابعًا احتفاليًا أكثر وضوحًا. إذ تحولت من مجرد مكان للتجارة إلى فضاء اجتماعي يعكس أجواء الأعياد العائلية. كما أصبحت الهدايا والأطعمة جزءًا مهمًا من هذه الأسواق. وظهرت عادات جديدة مثل عرض المجسمات التي تصور مشهد ميلاد السيد المسيح.
ومع تطور هذه العادات، أصبحت الأسواق مناسبة تجذب العائلات والأطفال بشكل أكبر. ومع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تأثرت أسواق عيد الميلاد بشكل كبير. إذ أدى ظهور المتاجر الكبرى إلى تقليل أهمية الأسواق كمصدر لشراء الهدايا. لكنها بمرور الوقت استعادت جاذبيتها كوجهة احتفالية شعبية. حيث أُضيفت زينة جديدة في الأسواق مثل الأشجار المضيئة والأكشاك المزينة بألوان مبهجة. من ناحية أخرى وخلال القرن العشرين، تراجع نشاط الأسواق خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. لكنها عادت للازدهار في الستينيات مع تحسن الأوضاع المعيشية.
سوق عيد الميلاد في فرانكفورت
يقال إن سوق عيد الميلاد في فرانكفورت هو أيضاً واحد من أقدم أسواق الميلاد في ألمانيا، إلى جانب أسواق باوتسن ودريسدن. إذ يعود تاريخه إلى عام 1393 وفقاً للوثائق التاريخية. في البداية، كان السوق مخصصًا لسكان المدينة فقط، حيث كان الدخول محصورًا عليهم ولم يسمح للغرباء بالمشاركة. ولم تكن شجرة عيد الميلاد جزءًا من التقاليد آنذاك. بل أصبحت عنصراً أساسياَ في الاحتفالات في أوائل القرن التاسع عشر. كان السوق يعرض المنتجات الحرفية المحلية ذات الجودة العالية، إلى جانب ألعاب بسيطة مثل العربات الخشبية والدمى القماشية.
حتى السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، كان سكان فرانكفورت يشترون ألعاب أطفالهم حصرياً من هذا السوق. ما جعله جزءاً لا يتجزأ من ذكريات الأعياد والتقاليد العائلية في المدينة. اليوم، أصبح السوق يحتضن أكثر من مليوني زائر سنويًا من شتى أنحاء العالم. وهكذا صار شاهدًا على تطور المدينة التي مزجت بين تاريخها العريق وروحها العصرية.
من ألمانيا إلى العالم
يقام اليوم في ألمانيا أكثر من 2500 سوق لعيد الميلاد سنويًا، ويعد سوق كولن الأكبر في البلاد، حيث يضم نحو 140 كشكاً. هذه الأسواق التي انطلقت في ألمانيا كجزء من تراثها الثقافي، أصبحت اليوم جزءًا من احتفالات العالم بأسره، تجوب مختلف البلدان. على سبيل المثال، في مدن عالمية مثل نيويورك وطوكيو وسيدني، تنظم أسواق مستوحاة من التقليد الألماني العريق. وتقدم مزيج ساحر من التقاليد الأوروبية مع لمسات محلية تميز كل مدينة.