Foto: ماهر العوامي
24/09/2023

قربان لمة شمل

لم نستفق من صدمة زلزال المغرب العنيف الذي أودي بحياة الكثيرين ودمر بيوتهم، حتى تفاجأنا بإعصار دانيال الذي جرف بجنون كل ما كان على ضفتي وادي الشواعر درنة من عمارات ومساكن بسكانها وسيارات وشاحنات بركابها في لمح البصر. ليرمي بكل شيء في البحر إلى جانب المدن الإغريقية والرومانية المغمورة سابقاً في الماء.

خسائر كبيرة لا تقدر بثمن دفعتها مدينة الثقافة والأدب والفن درنة، والخسائر الفادحة كانت في البشر من أطفال ونساء وشيوخ ورجال وشباب وأيضاً حيوانات أليفة، كل ما كان على ضفاف الوادي من حياة أخذها الموت على حين غرة، لتتحول ليبيا بالكامل إلى خيمة عزاء كبيرة. ولتبدأ الفزعة من كل مدن ليبيا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولمؤازرة ما تبقى من أسر الشهداء. حيث أن الغريق في فقه الدين الإسلامي يعتبر شهيداً. مدينة درنة محبوبة من كل ليبيا، ويحرص كل الليبيين في المدن الأخرى على زيارتها لكرم أهلها ولطفهم ولمعالمها السياحية من شلال وبحر وجبال ووديان. ولزيارة مسجد الصحابة الذي يرقد إلى جانبه ثلاثة وسبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما تنتجه من فواكه لذيذة رمان ليمون عنب تين توت موز، وكذلك لتوفر الأعشاب الطبية من بردقوش ومريمية ونعناع وغيرها. أضف إلى ذلك تنظيمها لعدة مهرجانات ثقافية على مدار العام مثل مهرجان الأسطى عمر ومهرجان ليالي درنة المسرحية وغيرها، عندما تذكر كلمة درنة لابد وأن يمر على ذهنك كلمة فن ثقافة رياضة جمال.

الإعصار جرف كل شيء على جانبي الوادي حتى المسجد العتيق 2023-1663 الذي تعلوه 42 قبة بيضاء لم ينجُ من ذلك حيث جرفه السيل بالكامل. ولا مقبرة الصحابة التي لم تترك الشهداء يذهبون إلى البحر بمفردهم وقرر الصحابة أن يرافقوهم إلى حيث الجنة، بيت درنة الثقافي الذي كان فيما مضى كنيسة لم يبقَ منه سوى باقي جذع نخلة وعدة أمتار مربعة من أرضيته، منظر مؤلم وأنت ترى الشاعر سالم العوكلي، وهو يشير بإصبعه إلى باقي جذع نخلة كانت تتوسط البيت الثقافي، حيث كان يلقي قصائده منذ شهور قليلة، ليقول له جذع النخلة لقد رحل الحجر وبقت القصائد، كل شيء جرفه الماء في لمح البصر بعد أن عجز السد عن مقاومة تدفق الماء وانفجر ليذهب الماء القاتل إلى حيث الأرواح البريئة، السد لم يصَن منذ عام 2002 على الرغم من رصد مبالغ كبيرة في الميزانية لصيانته. لا أحد يدري إلى أين ذهبت، وللأسف لم تكترث الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد لخطورة ترك السد مهملاً. رغم التحذيرات والتقارير الفنية التي قدمها المهندسون والمثقفون أثناء أنشطتهم الثقافية للمسؤولين آخرها في ندوة نظمها بيت درنة الثقافي يوم 6-9-2023 أي قبل وقوع كارثة الإعصار بأربعة أيام بعنوان” وادي درنة تبعات الإهمال ومخاطر الانهيارات” لكن فيك يا وادي (مثل ليبي عبر عن اللامبالاة).

الخسارة كانت فادحة هزت كل الليبيين الذين ما عادوا يفكرون سوى بالركض نحو درنة بمعوناتهم وبجهدهم في السيارات لتقديم العون قبل حتى أن تصل المعونات من الدول الصديقة والشقيقة وغيرها. حتى أن الطريق من بنغازي إلى درنة صار مزدحماً جداً. كل السيارات تتجه شرقاً في اتجاه واحد مليئة بالمعونات من غذاء وأدوية وأغطية. والجميل أن الكل أتى لدرنة. لا أحد خاف من الاعتقال أو القتل. نتيجة مشاركته من قبل في معارك ضد الجيش، فلا تستغرب أن ترى جنديين ليبيين كانا قد تحاربا من قبل إلى جانب بعض في درنة ينقذان الناس ويقدمان الدعم والمساعدات. كارثة دقت جرس إنذار في أذن ليبيا وجعلتها شعباً واحداً من جديد يعيشون الألم نفسه بطريقة الحديث الشريف “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.

لعل الشهداء الذي رحلوا إلى الله سعداء برد فعل الناس على مصابهم. سعداء بكل هذا الحب الذي أتي لهم من كل مكان في العالم، سعداء برؤية الليبيين إخوة يحبون بعضهم البعض. إخوة أصدقاء وليس إخوة أعداء، سعداء برؤية الليبيين وقد تجاهلوا حروبهم، ووقفوا معاً لتقديم المساعدة، بل التنافس الشديد في تقديمها. سعداء لخلقهم هذا الشعور الأخوي النبيل في شعب كان يعتقد أنه تبلد وغرق في مستنقع اليأس. أطباء من كل مدن ليبيا أتوا إلى درنة، قادة كتائب عسكرية كانت متناحرة منذ سنتين فقط، تراهم إلى جنب بعض كالإخوة. التوافق والسلام والانسجام الذي لم تحققه كل المؤتمرات والندوات التي انتظمت للم شمل الليبيين في جنيف والمغرب وتونس وغيرها من بلدان العالم لم تحقق أي نتيجة بل زادت الفرقة بين الليبيين، بينما درنة حققت ذلك بتقديمها هذا القربان المؤلم.

لدي كثير من الأصدقاء الذين رحلوا في الإعصار، منهم الشعراء والأطباء والجيران والكتاب وغيرهم، لكن الذي أشعر به أن كل من أخذهم الإعصار هم أصدقائي وإخوتي فعلاً، سواء كانوا من أهل درنة أو من الجاليات العربية والأجنبية التي تعمل في درنة أو تعيش فيها، لذلك لم أستطع أن أنعي أحداً باسمه، فالرحمة والمغفرة للجميع والمحبة للجميع والألم الذي اجتاحني بسبب رحيلهم جاء من الجميع.

أما المساعدات والتبرعات التي انهالت على درنة فهي كبيرة في قيمتها الإنسانية، أكثر من المادية. لم يغب أي خير عن درنة، حتى أنك تعجز عن حصرها. الكل يجمع تبرعات مالية ملابس أغطية أدوية بيوت سكن متنقلة وقود ماء صالح للشرب إبل أغنام وجبات جاهزة. كل إنسان قدم ما لديه بطيبة خاطر ورضا أيضا بيوت لمن فقد بيته وشقق، إعلانات كثيرة تجدها يوجد عدة شقق خالية يوجد عدة بيوت، يوجد استراحات، عليكم بالاتصال بهذا الرقم، كثير من مؤسسات المجتمع المدني ومن الشباب الذين لا ينتمون إلى مؤسسات نظموا أنفسهم وصاروا يجمعون المعونات ويرسلونها في سياراتهم إلى درنة ، مواصلين العمل ليل نهار، فكل دقيقة بعد الإعصار لها قيمتها ، حتى أن ستة شباب من جماعة فزعة بنغازي لقوا حتفهم في حادث سير وهم عائدين من درنة بعد إتمام مهمتهم.

لا نريد أن نتحدث عن المساعدات التي قدمتها الدول بسرعة. والتي اعتبرها البعض لأهداف سياسية قبل أن تكون إنسانية. وتحدثنا هنا عن ما قدمه الشعب الليبي لنفسه، حتى الليبيون في خارج البلاد لم يتجاهلوا الأمر وبذلوا جهدهم في جمع التبرعات والمعونات، قابلت د. حسين القرقني من الجمعية الليبية الألمانية للأعمال الخيرية وأطلعني على عدة معونات دوائية ومالية لإرسالها إلى درنة حيث أنها ستسلم للمتضررين مباشرة، وسبق أن أرسل عدة معونات قبل ذلك على مدار العام، ورغم فقدان د حسين لعدد من إخوته وعائلاتهم في الإعصار إلا أنه يبدو رابط الجأش، ولم يوقفه حزنه على بذل الجهد وتعبئة الصناديق بالمعونات والاتصال بالمؤسسات التي تتبرع للمتضررين، وقد نالت الجمعية الليبية الألمانية التي يديرها د.القرقني النجمة الذهبية من عمدة بون لتميزها في الأعمال الخيرية الإنسانية، التي تقدمها لكل المتضررين والمحتاجين ليس في ليبيا فقط إنما في كل مكان يحل به الأذى، لقطات كثيرة يمكننا أن نسجلها من قبل المتبرعين شيخ كبير يقدم جرده الذي يغطيه لأهل درنة، وسيارات تجلب الأكفان لدفن الضحايا، وولد صغير يجمع تبرعات بعد صلاة الجمعة سألته هل موعظة الشيخ أثرت فيك وجعلتك تجمع تبرعات لضحايا الإعصار، فقال لي، هذه الأفعال الحميدة تربينا عليها، ولا نحتاج إلى موعظة لتحركنا.

  • نص للكاتب والأديب الليبي محمد الأصفر