متى كانت آخر مرة شاهدتم فيها فيلماً يمنياً؟ للأسف لا أذكر أني شاهدت مسلسلاً أو فيلماً ولا حتى عملاً فنياً من هناك من قبل. قد يكون جزء كبير من ذلك بسبب تقصيري الشخصي! ولكن وكما قال عمرو جمال مخرج الفلم، الأفلام من اليمن نادرة جداً. لعل ذلك كان أحد الأسباب التي جعلت صالات العرض تعج بالمشاهدين. بعد سبع سنوات من وجودي في برلين، هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها دور السينما خلال مهرجان برلين السينمائي “برلينالة”! شاهدت بالأمس فيلم “المرهقون” للمخرج عمرو جمال وأنقل لكم هنا مشاهدتي وانطباعاتي عن الفلم الذي أثر بي بشكل كبير. سأحاول ألا يكون هناك أي حرق للأحداث في حال كان لديكم الرغبة لمشاهدة الفلم بأنفسكم.
قرار صعب جداً
تدور أحداث الفيلم في مدينة عدن الساحلية القديمة في جنوب اليمن. يدخل المخرج في صلب الموضوع منذ اللقطات الأولى في الفيلم. تعيش إسراء وزوجها أحمد وأطفالهم الثلاثة في بيت على ما يبدو أنهم يستعدون لمغادرته. كل شيء موضب ومجهز بكراتين للإنتقال إلى شقة أرخص. أحمد الذي كان يعمل في تلفزيون عدن، لم يستلم مرتبه لفترة تزيد عن الشهرين، ما اضطره إلى العمل كسائق أجرة. في حوارهم الأول، نكتشف أن إسراء حبلت بشكل غير متوقع بطفلهم الرابع. يجد الزوجان نفسهما على حافة هاوية الفقر المدقع. فهما بالكاد يستطيعان تأمين لقمة العيش والرسوم المستحقة لمدارس الأطفال. كلاهما يعرف أنهما لا يستطيعان تحمل تكاليف طفل رابع، لذا يتخذ الاثنان قرار الإجهاض. وهو أمر ليس بالهين في اليمن. الفيلم الدرامي بامتياز مبني على قصة حقيقية قد حصلت لأحد أصدقاء المخرج عمرو جمال.
محاولات دون جدوى
يبحث العديد من الأشخاص عن فتوى تتيح لهم فعل ما يرغبون بفعله. وكالعادة تكثر الفتاوى بين من يحللها ومن يحرمها. يضع ذلك إسراء وأحمد في حيرة من أمرهما في البداية. الإجهاض قرار معقد جداً وإشكالي دينياً. تجد إسراء نفسها تشاهد مئات مقاطع الفيديو حول الموضوع من شيوخ ورجال دين مختلفين منهم من يفتي بجواز الإجهاض قبل إتمام الشهر الثالث من الحمل ومنهم من يقول إن ذلك حرام ولو حتى بعد انقضاء أسبوع واحد فقط. يخالف الجميع الموضوع سواء من أخت إسراء أو أصدقاء أحمد. ولكن الاثنين يريدان القيام بهذه الخطوة. تحاول إسراء إقناع صديقتها الطبيبة المتدينة بالقيام بالعملية دون جدوى. ولكن بعد أن تقوم إحدى الممرضات بالتنسيق لقيام عملية الإجهاض في المنزل دون إشراف طبي تقوم الطبيبة بتغير رأيها. يبدو الإجهاض هنا ليس فقط إجهاضاً للطفل في داخلها، بل إجهاضاً لأحلامهما في هذا الوضع الصعب.
بلد بدون سينما
قام مخرج الفلم بتقديم العديد من المشاهد من المدينة والتي لا تمس بطريقة مباشرة صلب موضوع الفلم. بحسب ما قال المخرج وما نقله الصحفي سليمان عبدالله، أشار عمرو جمال إلى ندرة الأفلام التي تُصنع في اليمن: “بلد بدون سينما .. بلد مصاب بالزهايمر”. بالرغم من الأوضاع المعيشية المتردية جداً، نرى تكاتف الأشخاص ومساعدتهم لبعض في محاولة للنجاة سواء أكان ذلك بالدعم النفسي والمعنوي أم بالدعم المادي. الحياة صعبة جداً لدرجة الاختناق. صعبة جداً لدرجة أنك تسمع تنهيدات الجمهور بين كل مشهد وآخر! يقضي الناس معظم وقتهم دون كهرباء، يصطفون مع الغالونات على طابور المياه. كما وفي كل مكان من دول المنطقة المحكومة بالفساد والمحسوبيات والبلطجة، نرى كيف يكون دائماً من يحمل السلاح هو فوق القانون. ولكن رغم كل ذلك، نرى شعباً يشبه جميع شعوب العالم، شعباً يطمح لحياة أفضل ومستقبل أفضل له ولأطفاله!
بدايات الحضارات لعنة المستقبل
في الحروب، الخاسر الأكبر دائماً هو الشعوب. في سوريا نعرف ذلك جيداً! ولكن من كثرة الأهوال والمصائب التي عايشناها، قد ننسى أحياناً أن اليمن قد شهدت أكثر الحروب تدميراً في العالم. ولكننا نكاد لا نسمع شيئاً من هناك. اليمن السعيد، كما كان يوصف دائماً، لم يعد سعيداً. للمرة الأولى أشاهد مقاطع مصورة من مدينة عدن لا تتخللها القذائف المتساقطة والأسلحة الرشاشة في كل مكان كما عودتنا نشرات الأخبار. في النظرة الأولى ترى عدن، المدينة الساحلية الجميلة والتي تبدو ملامح العراقة الحضارة والأصالة في أبنيتها وأزقتها. تتخيل كيف كانت هذه المدينة القديمة العتيقة قبل الحرب، وكيف كان لها أن تكون لو لم تثقل الحرب كاهلها وحكمت بالفساد لسنين طويلة. وكأن بدايات الحضارات لعنة المستقبل. ألا تتشابه كل تلك الدول ذات التاريخ العريق؟ اخترعنا الأبجديات وبنينا أولى المدن.. حكمنا الفساد والطمع والجشع وتكالبت علينا الأمم لنتذيل كل القوائم!
لقاء مع مخرج الفيلم عمرو جمال إعداد وتصوير: أنس خبير