07/08/2022

في حضرة التيكنو!

من بين الأشياء العديدة التي قدمتها برلين للعالم، هي الموسيقى الإلكترونية، أو ما يعرف بالتكنو التي بدأت بالانتشار أوائل الثمانينات. ليس هناك مكان وسط عندما يتعلق الأمر بهذا النوع من الموسيقى، فإما أن تحبها أو تكرهها!

اختلاف ثقافات؟

عندما كنت في سوريا، كان مفهوم “السهر” يعني الذهاب مع الأصدقاء إلى “الكلوب” والرقص معاً. فالسهر كان حالة اجتماعية والرقص هو فعل مشترك. في برلين الوضع مختلف. فالهدف من الذهاب إلى “الكلوب” هو الرقص وليس الحالة الاجتماعية – في أغلب الأوقات وليس دائماً – والرقص هنا هو ممارسة فردية وليس ممارسة اجتماعية! ولكن بعد عدة زيارات إلى “كلوبات” المدينة الشهيرة، اكتشفت معنى جديد لهذا النوع من الموسيقى.

وقد يبدو ذلك غريباً جداً لكن التيكنو في “كلوبات” برلين أصبح يذكرني قليلاً بجلسات “الحضرة” في دمشق! قد يدعو التشبيه إلى السخرية أو غضب البعض! فكيف يمكن تشبيه أماكن الرقص بطقوس دينية صوفية؟ لذلك يجب التنويه إلى أن ما أتكلم عنه هو حالة عامة ناتجة عن سلوك جمعي ضمن مجموعة وليس عن الهدف أو الممارسات سواء كان ذلك في مسجد أو في ملهى ليلي. أو بتعبير آخر، تأثير الإيقاع على سلوك الأفراد ضمن المجموعة!

إدس إدس إدس!

في برلين، معظم “الكلوبات” لديها عدة غرف أو صالات لأنواع مختلفة من موسيقى التيكنو. بعضها يعتمد على اللحن وبعضها على الإيقاع السريع جدا أو البطيء. للوهلة الأولى عند الدخول إلى أي غرفة، قد ينتابك شعور أنك وسط حشد من الزومبي! كل شخص يقف بمفرده يرقص في دائرة لا يتجاوز قطرها متراً واحداً، وفي الأيام المزدحمة قد لا يتجاوز قطرها النصف متر. الرقص على موسيقى التيكنو بسيط جداً. كل ما عليك فعله هو الإحساس بالموسيقى والحركة عند الإيقاع. الحركة هنا تقتصر على ثني الركب وتحريك الرأس يميناً ويساراً أو إلى الأمام والخلف. أو القيام ببعض الخطوات دون المشي بمعنى رفع القدم فقط. ولكن كلٌ لهُ طريقته في أداء هذه الحركات! قد يقوم البعض بتحريك اليدين كحركة محمد منير أو الإمساك بمقود سيارة متخيل بيد واحدة والانعطاف يمينا ويساراً مع الحفاظ على حركة الرأس وثني الركب مثلاً!

ثني الركب أيضاً!

الحضرة لمن لا يعرفها، هي مصطلح يطلق على المجالس الجماعية للذكر على الطريقة الصوفية ويؤديها المسلمون السنة بشكل خاص. على رأسها يكون هناك شيخ عارف بالطريقة يقودها وينبه على كل ما من شأنه أن يشوش على إمكانية الوصول إلى لحظة الصفاء. وبحسب ويكيبيديا فقد سميت بذلك لأنها سبب لحضور القلب مع الله. وهناك حضرة قادرية وحضرة شاذلية وغيرها وقد يستخدم بعضها آلات موسيقية. هناك بعض الجدل على مفهوم الحضرة بين المذاهب المختلفة ومنهم من يراها بدعة ويُشرّع بعدم جوازها، ولكني لست بصدد مناقشة هذا الموضوع. تشترك معظم الحضرات تقريباً بهذه الأمور: يقوم الشيخ، قائد الحضرة، بإلقاء الذكر بطريقة متكررة تعتمد على نفس الإيقاع. يلتف المشتركون حول هذا الشيخ ويرددون ذات الذكر والدعاء والتلاوة. يصاحب هذا الذكر حالة لا إرادية من الاهتزاز على الإيقاع تتمثل بثني الركب وتحريك الرأس إلى الأمام والخلف!

الإيقاع هو السر

ذكرت في البداية أن مفهوم الرقص والسهر في نوادي دمشق التي أعرفها وكلوبات برلين مختلف تماماً. فالأولى هي حالة اجتماعية مشتركة، في حين أن الثانية هي فردانية تماماً. ولكن بعد عدة زيارات لكلوبات برلين، أستطيع القول إن الرقص على موسيقى التيكنو قد يكون بشكل فرداني، إلا أن الحالة العامة  تفرض شعوراً بالرغبة في الحركة مع المجموعة أو كأن جميع الأشخاص الموجودين يرقصون وكأنهم شخص واحد وكيان واحد. بانضباط وانسجام وتناغم مع الإيقاع. بعد قضاء القليل من الوقت في أي “كلوب” ستجد نفسك تثني ركبتيك وتحرك رأسك بشكل لا إرادي وكأن الموسيقى والحالة العامة تعمل كمغناطيس يشد الجميع. في الحضرة، تضفي الحالة الروحانية الموجودة إحساساً مشابهاً! فبعد قضاء بعض الوقت تجد نفسك تهتز إلى الأمام والخلف وتردد ما يقال بإيقاع مستمر بتناغم.

المانترا والطقوس

يمكنني تشبيه هذا الإيقاع بالمانترا! والمانترا بحسب تعريفها في ويكيبيديا، كلمة سنسكريتية الأصل وتعني أي كلام مقدس، أو صوت مسموع، أو مقطع لفظي، أو كلمة أو مقاطع صوتية، أو مجموعة من الكلمات بطريقة متكررة والتي يعتقد ممارسها أن لها قوى دينية أو سحرية أو روحية. وكان استخدامها الأول لدى الهندوس والبوذيين. أما في الوقت الحالي تحول استخدامها الروحي إلى ممارسات التأمل واليوغا. ولكن وبحسب التعريف مرة أخرى وعند التفكير قليلاً بإمكاننا إيجاد المانترا بالعديد من الطقوس الدينية، سواء في الحضرات الصوفية، أو الترانيم المسيحية أو اللطميات الشيعية، وفي رقصات الهاكا لدى قبائل الماوي ولدى السيخ والقائمة تطول.. هذا الإيقاع المتكرر الذي يلغي إحساس الفرد بفردانيته ويجعله جزءاً متناغماً ضمن مجموعة كبيرة، هو الإيقاع الذي نجده في موسيقى التيكنو أيضاً.