Photo: Private
07/07/2022

آنيماري شيميل.. جسر بين الإسلام والغرب

صدر حديثاً كتاب للدكتور عبد الملك هيباوي بعنوان “أنيماري شيميل جسر بين الإسلام والغرب” الذي جمع فيه بين الإحاطة الشاملة بحياة آنيماري شيمل، وبين إضاءة مؤلفاتها في التصوف الإسلامي، وخاصة بمنطقة باكستان والهند المسلمة، سواء اتصلت تلك التصانيف بـ “الشعر الصوفي” أو بـ”محمد إقبال” أو بـ “جلال الدين الرومي” أو بـ “الفن الإسلامي” أو بـ “الاستشراق”. مسلطاً الضوء على رسائلها لأهل الشرق والغرب، والتي تتمحور جميعُها حول تكريس ثقافة الحوار والتعارف والإصغاء المتبادل. مُذيلاً الكتابَ بقائمة بأعمال وإسهامات آنيماري شيمل (1922-2003) في مختلف المجالات. هيباوي أستاذ بجامعة توبنجن سابقا، ورئيس المجلس الألماني المغربي، ومرشد روحي بالسجون الألمانية.

‎لماذا اخترتها أن تكون هي الجسر ما بين الإسلام والغرب والذي هو عنوان كتابك؟

اخترت ذلك وفاء لهذه العالِمة التي دلَّتني على الطريق علما وعملا؛ فقد أحبّت الحضارة الإسلامية، فكرا وشعرا وفنّا وإبداعًا، وعملَت بجهدٍ وحبّ متفرِّدَين لتصحيح الصور النمطية الغربية عن الإسلام والمسلمين، والموروثة عن العصور الوسطى المظلمة، وحاولت الإسهام في تحرير الاستشراق من خلفية المركزية الغربية في الاقتراب من هذه الحضارة ومنجزاتِها في مختلف المجالات، وهو ما جعلها تُسهم في تحقيق نقلةٍ كبرى في الاستشراق الألماني بالانفتاح بموضوعية وإيجابية على الثقافة الإسلامية، وإدراك أهمية الحوار الحضاري والتواصل الفكري مع الآخر؛ ذلك أن مستقبل الإنسانية جمعاء يتعلق بحلِّ التفاهم المتبادَل بين الشعوب. الأمر الذي يعني أن الوفاء لمشروع شيمل يقتضي، فضلا عن الاعتراف، تثمين رؤيتها وتثميرِها واستئناف العمل في أفقِها، ضدّ كل أشكال الصراع وثقافة التنابذ والكراهية والعنف والصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية. وبالتالي التجسير بين “الشرق والغرب”، والانخراطِ في بناءِ مُشْتَرَك إنساني يؤسِّس لحوارٍ حضاري، يحرِّرُ العقول والأرواح من أمّيَّة الشرق أو الغرب.

ما أهمية أعمالها في خلق الجسور ما بين مجتمعها الأصلي والمجتمعات الأخرى، خاصة أنه مشهود لها معرفتها للعديد من اللغات؟

د. عبد الملك هيباوي

لقد أمضت آنّيماري شيمل ستين عاما لا تكل ولا تمل من التأليف، والكتابة والنشر والترجمة والتحقيق وإلقاء المحاضرات والإشراف على البحوث، كانت حصيلتها أكثر من مائة كتاب، ومئات الدراسات والبحوث والمقالات والمحاضرات، في مواضيع مجهولة لدى الكثير من أهل الغرب والشرق، شرحت فيها النتائج والخلاصات التي انتهت إليها أبحاثها المتميزة بالوفرة والعمق. وقد ساعدها على ذلك حجم معرفتها الفريد باللغات الأجنبية. فلم تكتف بترجمة النصوص من لغات العالم الإسلامي الكلاسيكية (العربية والفارسية والتركية) إلى اللغة الألمانية والإنجليزية، بل أيضا من لغات الهند المسلمة وباكستان (الأردية والسندية والبنجابية ولغة الباشتو). ولهذا فإن أعمالها العلميـة قد بنيت علـى مصادر دراسية لا حدود لها. بهذه الأعمال العلمية فتحت شيمل أمام الغربيين كنوز الشرق الأدبية والعلمية، وأسدت خدمات جليلة للثقافة الإسلامية والآداب الشرقية. إن أعمالها تلك، والتي حاولت بسطها والتعريف بها في هذا الكتاب، تمثل مرحلة حاسمة بتاريخ الاستشراق في أوروبا عامة وألمانيا على الخصوص، وهي أعمال تجعلنا نعترف أن شيمل مثلت بصدق، خير وسيط ظهر حتى الآن بين العالم الإسلامي والغرب.

‎كيف تلمس تأثرها بالشرق؟

يظهر ذلك بدءا من عشقها المبكّر للغة العربية؛ كانت قادرة على رؤية ما لا يراه غيرُها ممن لم تُفتَح وتُسْنَح له من الغربيين إمكانيةُ اكتشافِ الوجه الحضاري الغني لهذا الشرق، بعيدا عن الصور العجائبية والنمطية والسحرانية عن شرق لا يوجد إلا في متخيل واهم، يغذي مركزية نرجسية تقتات على عقدة تفوق الغرب، وتشكل جرحه التاريخي العميق. ولم يكن لشيمل أن تتحرر من هذه العقدة لولا ذاك الشغف في تعلم اللغة العربية واكتشاف الشرق في مصادره؛ ذاك الشغف الذي جعلها تنفتح على حضارة الإسلام في كل أبعادها الروحية والجمالية والاجتماعية، وفي كل المجتمعات الإسلامية؛ وخصوصا منها مجتمعات شبة القارة الهندية وباكستان. كما أن إتقانها أيضا للغات الفارسية والتركية والأردية والبنجابية والباشتو وغيرها، مفتاحا ليس فقط لتعريف الغرب بأبعاد الحضارة الإسلامية في هذه المنطقة، ولا سيما في جوانبها الروحية والأخلاقية والجمالية؛ بل كان ذلك أيضا مفتاحا هاما من مفاتيحِ تجسيرِ الصلات الثقافية بين المسلمين أنفسهم من ذوي اللغات والثقافات المتنوعة.

كيف بدأت بمتابعة أعمالها والبحث فيها؟

لعلاقتي بالمستشرقة آنيماري شيمل سياقان الأول شخصي والثاني علمي. فقد زارت المغرب سنة 1994 كنت حينها في سلك الماجستير بجامعة محمد الخامس بالرباط، وقد ألقت حينها مجموعة من المحاضرات، منها محاضرة عن التصوف الإسلامي ألقتها باللغة العربية، وهو ما ولد لدي الرغبة للتعرف على هذه القامة العلمية، فقررت حينها البحث في فكرها ومنهجها والتعريف بها وبأعمالها للقارئ العربي، إذ كنت منذئذ متقنا للغة الألمانية، ولما عزمت على تسجيل الدكتوراه لم أتردد في اختيار الموضوع الذي وافق عليه الأستاذ الدكتور عبد المجيد الصغير أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بنفس الجامعة في اطار إشراف مزدوج بينه والأستاذ الدكتور استيفان فيلد من قسم الاستشراق بجامعة بون الألمانية، وكان عنوان الأطروحة: “الاستشراق الألماني: دراسة ّ في حياة المستشرقة آنيماري شيمل وجهودها في تقريب صورة الإسلام والحضارة الإسلامية إلى المجتمع الألماني”. وفي صيف 2001 كان اللقاء الأول مع العالمة آنيماري شيمل في بيتها بمدينة بون، فكان لي شرف محاورتها وتسلم أبحاثها. وبعدها استمر التواصل معها عبر المراسلة إلى أن وافتها المنية عام 2003

كتبت شيمل أكثر من 100 كتاب، فهل تعتبر كتاب “أبعاد التصوف الإسلامي- تاريخ التصوف” أهمها؟

لم تؤلف شيمل في قضايا الفقه أو الفلسفة أو فقه اللغة، كما فعل كثير من نظرائها الألمان، وإنما ألفت في حقل التصوف الإسلامي تاريخا وفكرا وممارسة، وعالجت تراث المسلمين في شبه القارة الهندية، والشعر الصوفي الفارسي والتركي والعربي ورموزه من الشعراء، والفن الإسلامي، كفن العمارة والخط العربي، ومواضيع أخرى عديدة.

لكن يبقى كتاب “أبعاد التصوف الإسلامي- تاريخ التصوف” عرضا شاملا للتصوف، الذي ظهر لأول مرة عام 1975 باللغة الانجليزية تحت عنوان: “Mystical Demesions of Islam”. ومثل كثير من أعمالها الأخرى، سرعان ما حصل هذا الكتاب على قرين آخر بظهور الترجمة الألمانية سنة 1985 تحت عنوان:”Mystische Dimensionen des Islam – Die Geschichte des Sufismus”، ثم طبع عدة مرات كما ترجم إلى اللغة التركية سنة 1982، والفارسية والفرنسية، وصدرت ترجمته العربية عن النسخة الإنجليزية بحلب عام 2006 قام بها المفكر السوري عيسى علي العاكوب بعنوان: “أبعاد صوفية للإسلام”.

يُعد الكتاب دراسة موسعة وموثقة عن تاريخ التصوف في الإسلام من حيث جذوره ورجالاته وتياراته، وتعتمد فيه المؤلفة على كتب التصوف المرجعية القديمة والحديثة، وبمختلف اللغات التي كتبت بها وخصوصاً الفارسية. ويفوق هذا المؤلف في دقته كل ما كتب بالموضوع باللغات الأوروبية إلى حدود نهاية القرن 20. يقدم هذا الكتاب، مقارنة متوازنة لظاهرة التصوف عبر الأديان، بما فيها الدين الإسلامي، كما يعالج تاريخ التصوف الإسلامي من شمال إفريقيا حتى الهند، من حيث نشأته وتطوره وأبعاده.