قرأت خبرًا قبل أيام، يتحدث عن بريد لـ”سانتا كلوز” في إحدى ولايات ألمانيا، والذي يستقبل يوميًا ما يقرب من ٢٠٠ رسالة معبأة بأمنيات الأطفال! الخبر ذكرني على الفور بإحدى ليالي برلين البادرة، عندما كنا نشاهد فيلم “عائلة كلوز” أو The claus family، وسألتني ابنتي هيباتيا التي بدأت عامها السابع نوفمبر الماضي: (ماما.. سانتا كلوز حقيقي؟).
دفعني الخبر إلى البحث عن عائلات مهاجرة هنا، بعث أطفالهم رسائل إلى سانتا، لكنني لم أجد أحدًا، كنت أود أن أقرأ رسائل هؤلاء الصغار الذين ربما ولدوا أو انتقلوا إلى هنا في عمر مبكر! كنت أود معرفة ماذا كتبوا عن ألعابهم المفضلة؟ وهل يتذكرون بلدانهم أو يتمنون لها شيئا؟ هل يشتاقون إلى جدودهم؟ مثل ابنتي التي لم تتوقف عن السؤال :”متى نعود لمصر؟ متى نرى جدتي؟”.
الفقد
بات الكريسماس ذكرى حزينة لـ “عائلة كلوز” بعد موت الأب، لاسيما الابن الأكبر جولز، الذي يرفض كل مظاهر الاحتفال، بينما تحاول والدته وشقيقته التأقلم، صدر الفيلم عام 2020 للمخرج ماتياس تيمرمانز، وبطولة جان ديكلير، ومو باكر، وستيفان ديغان.
يكتشف جولز فجأة أن جده لوالده، الذي يملك متجر لبيع زينة عيد الميلاد هو سانتا كلوز! من خلال إحدى التحف السحرية التي سافرت به عبر الزمن إلى بلدان مختلفة، حتى وجد نفسه في منزل سانتا الخفي! وهناك وجد صورة جده مُعلقة على الحائط. يطلب الجد من جولز مساعدته بتوصيل الهدايا إلى الأطفال بسبب وعكة صحية يمر بها، ولكن كراهية جولز لعيد الميلاد تجعل الأمر صعبًا في البداية!
دفعت أحداث الفيلم ابنتي للتفكير بحقيقة القصة الخيالية المبهجة لـ “سانتا كلوز”! كنت أقول لها دائما إنها قصة مبتكرة، لإضفاء البهجة على حياتنا في عيد الميلاد، الذي يتزامن مع نهاية عام سيمضى بكل ما فيه من ذكريات مؤلمة، وبداية عام جديد، نتمنى أن يكون أفضل. لم تتوقف ابنتي عن السؤال خاصة بعد تساقط الثلج هنا وفتح أسواق الكريسماس أيضا، التي ذهبنا إليها للمرة الأولى منذ 10 أيام في ألكسندر بلاتز، وجعلتنا نشعر بحق أننا داخل الفيلم بكل أجوائه!
دراما الفيلم بالنسبة لي كانت كمن سكب ملحًا على جراحي التي لم تلتئم بعد، طوال مدة مشاهدة الفيلم، لا يعرف جولز كيف يتعامل مع مشاعر فقدانه لوالده، مثلي تمامًا في هذه اللحظة، لا أعرف كيفية النجاة بجزء ما مفقود مني؟ أندهش من جرأة البعض الذين يطالبونني أن أعيش هذه الحياة الجديدة؟ وأتساءل هل تعيش الزهرة إذا حاول أحدهم اقتلاعها من تربتها؟
لا أعرف هل أتألم لفقدان عائلتي؟ التي لا أعلم متى يمكنني أن أراها مرة أخرى؟ هل سيكونون جميعهم موجودين؟ أم حتى تلك اللحظة سيُغيب الموت أحدهم؟ ماذا عن الأجيال الجديدة التي بالعائلة، مثل ليليا ابنة شقيقتي التي لم أحضرها ولادتها ولن تعرفني إلا من الحكايات التي ستسمعها!
ماذا عن أصدقائي، هل يتذكرونني عندما يلتقون؟ هل ستتغير ملامح الوطن؟ الشوارع التي أحبها؟ المقاهي وعربات الفول هل ستظل طقسًا من طقوس شوارع القاهرة؟ وماذا عن هويتي التي اضطربت وأصبحت عالقة بين بلدي الأم وبلد المنفى؟ ماذا عن وجودي وقيمتي؟ من أنا وماذا أفعل هنا، وما قيمة وجودي الآن؟ ما المعنى لكل هذا؟
حقيقة أن كل صباح أستيقظ فيه هنا بلا شمس، يذكرني أن حياتي التي أعرفها على مدار 30 عامًا، توقف نموها عند تاريخ ما، وأصبحت ذكرى من الماضي، مجرد استرجاعها هو نبش لألم يحاول أن يأخذ استراحة من إزعاج صاحبه. تذكرت أول يوم لي في شوارع بيروت عندما وجدت جرافيتي يقول: “صرنا ننتمي إلى الفقد، كيف نلتئم؟” التقطت صورة للحائط وما زلت أبحث عن الإجابة!
المنفى
في الثالث من نوفمبر 2020 بدأت رحلتنا إلى لبنان كـ تغريبة أولى، واستقر بنا الحال هنا في برلين منذ 6 أشهر، لتبدأ التغريبة الثانية، وذلك بعد إلقاء القبض عليّ في 3 أكتوبر لنفس العام، أثناء عملي على تحقيق ميداني بمدينة الأقصر، صعيد مصر، كان عن مقتل المواطن عويس الراوي على يد أفراد من قوات الأمن. لم تكن هذه المرة الأولى التي اُعتقل فيها بسبب عملي الصحفي، بل الثالثة! لكن ربما كانت المرة الأولى التي أعرف فيها معنى أن تكون سجين زنزانة حتى ولو لأيام. أجبرت الدولة المصرية لاحقًا على إخلاء سبيلي على ذمة القضية بكفالة مالية بعد أن اتهموني، بنشر أخبار كاذبة والانتماء لجماعة إرهابية!
حملت لي مهنة الصحافة المنفى والسجن والهزيمة، لم تقدرني بقدر شغفي بها، كنت واحدة وسط الكثير من زملائي الصحفيين الذين يعملون في مهنة أصبحت تذهب بأبنائها إما إلى التغييب بالسنين في السجن، أو المنفى بعيدًا عن أحبتهم، لمجرد أنهم يؤدون واجبهم المهني وأخذوا على عاتقهم أن يكونوا صوت من لا صوت له.
حالفني الحظ أن أخرج من السجن ليتركني أمام خيار واحد وهو المنفى، ما زلت أسأل بدهشة، وأنا أبدأ عامي الثاني منفية هنا في برلين، كيف انحصرت حياتي في هذين الاختيارين؟ إما البقاء في مصر مع احتمالية العودة للسجن، أو المنفي لأكون في سجن آخر تمامًا، أنعم فيه بحرية جسدي وحركتي وأنني مع بناتي وزوجي، لكن في عالم آخر موازي، أسوار زنزانته، عبارة عن حدود دول ومطارات، تفصل بيني وبين بلدي الذي أصبح كل شيء فيه مجرد ذكرى مفقودة ستظل حية بألمها دائمًا! والصوت الوحيد فيه، كلمات الشاعر بيرم التونسي: “يا حبايبنا فين وحشتونا، لسه فاكرينا؟ ولا نسيتونا؟ دا إحنا في الغربة، م الهوى دوبنا، وإنتوا في الغربة، إوعوا تفتكروا إننا تبنا، مهما فرقونا واللا بعدونا”.
هل يغير الغضب؟
يحبس جولز نفسه في غرفته ومعه رسالة والده، تسأله المربية التي تجلس مع شقيقته الأصغر عنها، ليرد قائلًا: رسالة من والدي ولكنني لن أفتحها. تنصحه المُربية بفتحها، ليرد غاضبًا: “وماذا إن فعلت؟ ما الذي سيتغير؟ لقد مات والدي، لكن والدك مازال حيًا”. تخلع المربية ساقها الصناعية وتقول له: “لم أعد ألعب البالية ولم أستطع أن أرتدي التنانير القصيرة، كان حادثا غبيا ولكن الغضب من العالم والحياة لن يغير ذلك”!
الجدران الصدئة!
قابلت طبيبي النفسي الأحد الماضي، قال إنني نضجت بالتعامل مع ألمي، لم يشرح الكثير! لكنني لاحظت بالفعل أنني توقفت عن الدبدبة في الأرض من الألم، توقفت عن الصراخ الداخلي الذي لم يسمعه أحد غيري. هدأت بالفعل، لكنني صدئت من الداخل، كنت أشعر دائما أن هناك حفرة عميقة في قلبي مفتوحة تتفتت جدران تجويفها، عسى أن تنغلق على نفسها بكل ما فيها، ما زلت أشعر بها، لا تزال موجودة، لا تزال فوهتها مفتوحة، لا يزال عمقها غائرا حتى أنني أشعر أحيانا أن هذه الحفرة اخترقت جسدي من الأمام إلى الخلف، ولكن الجديد أن جدرانها صدئت، يحملني إحساس الصدأ هذا إلى الظلام فقط!
الأمنيات
سألت ابنتي هيباتيا: “لو كان سانتا كلوز حقيقي وممكن نكتب له بريدا، إيه أمنياتك؟” ردت هيباتيا: “عاوزة عروسة، وبابا وماما يعرفوا يتكلموا ألماني، والسيسي مش يحبسهم تاني ويعرفوا يشتغلوا من غير خوف، نورية أختي تعرف تسوق العجلة من غير مسند، وتيته وجدو يبقى معاهم فلوس وييجوا يزورنا أو نعرف نرجع مصر يا سانتا”.
ثم بادلتني السؤال عن قائمة أمنياتي، اندهشت من صمتي، أعلم أن لدى أمنيات، وأعرف أيضًا استحالة تحققها. تذكرت أنني طوال الفترة الماضية، كنت أتمنى أن أكون لا أزال نائمة في بيتي بحي المعادي، ليكون كل هذا (الحبس والمنفى) محض كابوس وأن أحدهم سيوقظني قريبًا، لأجد نفسي في بيتي، أفتح الراديو في الصباح الباكر، سيكون يوما جيدا لا محالة إذا وجدت أغنية لأم كلثوم أو فيروز، وسيكون مضحكًا جدًا إذا وجدت تلك الأغاني الخفيفة التافهة التي كنت أستمع لها بفترة مراهقتي، ثم أشعل البخور وأعد قهوتي باللبن على السبرتاية وأتصفح الأخبار، ومشمش القط صديقي يحاول لفت انتباهي، يمسح رأسه بساقي، ثم أسقي الزرع وأجهز الفطور الذي نحب نتناوله تحت أشعة الشمس التي تجد طريقها إلى غرفة المعيشة، ثم أضع الطعام لعصافيري، التي ماتت صباح يومي الثاني في لبنان!
سؤالها حملني فجأة لمشهد بطل الفيلم جولز عندما قرر فتح رسالة والده وكانت كلمات الأب: “جولز إذا كنت تقرأ هذه الرسالة، فهذا يعني أنني رحلت لسبب ما، هذه ليست رسالة وداع بل بداية جديدة، مثلما ورث جدك المهمة عن والده، ستواصل أنت التقليد، لم أعد حيًا ولكنني أعيش فيك، الأمر يعود لك لإحضار النور إلى الظلام”.
عزيزي سانتا علمت الآن ماذا سأكتب لك: “أتمنى أن تكون حقيقيًا، مثل جد جولز ووالده، العالم يحتاج أشخاصًا حانية مثلك، أريد أن أخبرك قصتي، ولكنها حكاية طويلة، يصعب سردها في رسالة واحدة، أمنيتي الوحيدة لك الآن، إنارة قلبي الصدئ، حتى نلتقي”..