عندما كنت صغيراً كنت أقضي الكثير من الوقت في حارتي بدمشق، أتزلج على “البتناج أبو صف واحد“. ولكن كغيرها من عادات الطفولة وهواياتها هجرتني هذه الرياضة، أو هجرتها إن صح التعبير. قبل عدة أشهر أهدتني زوجتي البتناج مرة أخرى بعد انقطاع دام أكثر من 20 عاماً! ومن يعرف برلين, يعرف أن مطار تيمبلهوف أو ما يُعرف بتيمبيلهوفر فيلد هو من أشهر المناطق في المدينة لممارسة هذه الرياضة. وكون المطار لا يبعد سوى خمس دقائق عن مكان سكني، أصبحت أتردد عليه بشكل شبه يومي مع بتناجي الجديد!
إنه أمر رائع أن يكون هناك مساحة خضراء بهذا الحجم وسط المدينة، وبإمكان الناس ممارسة هواياتهم والتمتع بأنشطة وفعاليات كثيرة. طائرات ورقية ورياضات شراعية، حفلات موسيقى وشواء، تزلج وتزحلق وغيرها! أعتقد أن من حق المكان علي أن أروي لكم قصته. فالمطار لم يكن دائماً مطاراً، وهذا الحقل الواسع المليء بالبهجة والطائرات الورقية، لم يكن دائماً بهيجاً!
ما علاقة المنطقة بفرسان الهيكل؟
في القرن الثالث عشر، قبل أن تُعرف برلين ببرلين بأعوام عديدة، استولى فرسان الهيكل أو فرسان المعبد الملقبون بالجنود الفقراء للمسيح على المنطقة! كان اسم هذا التنظيم المسيحي باللاتينية Pauperes commilitones Christi Templique Salomonici وبالفرنسية Ordre du Temple / Templiers ومن هنا أتت تسمية المنطقة. استمر نشاط التنظيم قرابة قرنين من الزمن قبل أن يتحول المكان إلى أرض زراعية لمزارعي شونيبرغ لعدة قرون.
التيمبلهوف مركزاً لعروض بروسيا العسكرية
أثناء بحثه المستمر عن موارد أكبر لجيشه الذي يتسع باستمرار، قام ملك بروسيا، فريدريش فيلهلم الأول، بالاستيلاء على الأرض من المزارعين. كان الملك مهووساً بالعروض العسكرية، حتى أن ولعه قاده إلى تشكيل فوج عسكري خاص جمع فيه أطول الرجال وأطلق عليه اسم عمالقة بوتسدام! حول فريدريش فيلهلم الأول الملقب بالملك العسكري أرض التيمبلهوف إلى ساحة لعروض جيشه العسكرية. وسرعان ما شهدت السنوات التالية إقامة ثكنات وخط سكة حديد استراتيجي باتجاه مدينة هاله. إضافة لمشفى عسكري ومقبرة لضحايا حروب المملكة ضد نابليون.
مضمار لسباق الخيل وولادة كرة القدم الألمانية
في القرن التاسع عشر، بدأ يتغير استخدام حقل التمبيلهوف. في عطلات نهاية الأسبوع والعطلات الرسمية، وعندما لا تكون ساحة العرض قيد الاستخدام، كان مئات البرلينين يتدفقون إلى الحقل مع كراسي الاسترخاء وسلال النزهات الخاصة بهم. ظهرت واندثرت في تلك الحقبة العديد من المرافق في الحقل. حيث تم افتتاح مضمار لسباق الخيل، ملاعب التنس والكريكت، ملاعب الجولف حتى أنه احتوى على حوض سباحة خارجي. كما أن تمبيلهوف لعب دوراً رئيسياً في ولادة كرة القدم الألمانية. فقد تم تأسيس BFC Frankfurt 1885 أحد أقدم نوادي كرة القدم في البلاد هنا. أعلم أن الاسم مربك! لكنه تم إعطاء النادي اسمه تكريماً لمدينة مسقط رأس مؤسسه جورج لو.
تحول ميدان التيمبلهوف إلى مطار لأول مرة
مع بداية ظهور الطائرات الشراعية في نهايات القرن التاسع عشر، أصبح ميدان التمبيلهوف ميداناً تجريبياً لعدة تجارب طيران بالطائرات والمناطيد وتم التقاط أقدم الصورة الجوية للمكان من منطاد باربرا عام 1886. حتى أنه تم اكتشاف طبقة الستراتوسفير (إحدى طبقات الغلاف الجوي) بعد أن صعد عالما الأرصاد الجوية بيرسون وسورينغ في منطاد لارتفاع 10.8 كيلومتر وأغمي على كليهما خلال الرحلة! كما أن الأخوان رايت، مخترعا الطائرة الآلية، اختارا تمبيلهوف كموقع لاستعراض الطائرة التي استخدماها لإكمال أول رحلة جوية في العالم. كل تلك الأحداث مهدت الطريق لميدان التيمبلهوف ليتم استخدامه لأول مرة كمطار رسمي عام 1922بدايات
تمبلهوف والنازيين والحرب الباردة
عندما وصل النازييون إلى السلطة، تم استخدام المبنى القديم شمال المطار كموقع لأول معسكر اعتقال رسمي في برلين. هناك تم اعتقال السجناء السياسيين وتم احتجاز ما لا يقل عن 8000 شخص في ظروف مروعة. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سلم الاتحاد السوفيتي المطار للقوات الأمريكية والتي بدورها قامت بإصلاح المطار واستكماله، لاستخدامه كقاعدة جوية ومطار مدني. أثناء فترة الحرب الباردة وحصار برلين، أصبح المطار مركز الإمدادات الرئيسي لبرلين الغربية. واستمر استخدام الموقع كمطار رئيسي لبرلين بعد الوحدة لغاية إقلاع أخر رحلة من المطار عام 2008
تيمبلهوف واللاجئين
في خمسينات القرن الماضي، جاء آلاف الأشخاص من مناطق أوروبا الشرقية إلى برلين الغربية! ففي عام 1951 وحده، تم الاعتراف بأربعة آلاف لاجئ شهرياً وكان المطار المركز الوحيد لنقل هؤلاء اللاجئين إلى ألمانيا الغربية وأوروبا. أصبح تيمبلهوف مركزاً للاجئين مرة أخرى عام 2015 مع قدوم موجة اللاجئين إلى ألمانيا وتم استقبال آلاف الأشخاص بظروف سيئة وفوضى بيروقراطية في المبنى الرئيسي للمطار.
تقرير القناة الرابعة الأمريكية عن مخيم اللاجئين في مطار تيمبلهوف قبل خمس سنوات
ماهو مستقبل التيمبلهوف؟
كان هناك العديد من الخطط لبناء مجمعات سكنية وشقق فاخرة في الموقع كون مطار تمبلهوف يحتل مكاناً ممتازاً وسط العاصمة برلين. كان من شأن هذه الخطط زيادة الإيجارات في جميع أنحاء المنطقة! إلا أن مجموعة “سكوات تيمبلهوف” اليسارية نظمت مظاهرة احتجاجية في 20 يونيو 2009 أدت إلى مواجهات بين الشرطة والشعب وتم تفريق الجموع بالغاز المسيل للدموع. قامت المجموعة بجمع التواقيع ليبقى المطار موقعاً مفتوحاً للجميع. وتم افتتاح تيمبلهوف مجدداً للجمهور في مايو 2010. حالياً يعتبر الحقل ورقة انتخابية مهمة! يحاول الحزب الديمقراطي الحر FDP تنشيط حملة تواقيع مرة أخرى. حيث يحاول الحزب بناء وتطوير المجمعات السكنية على أطراف المطار. حتى أن الاتحاد الديمقراطي المسيحي يدعو إلى إجراء استفتاء لذلك! إلا أن حزب الخضر واليسار يلتزمون بقانون تيمبلهوف الذي دخل حيز التنفيذ عام 2014 ضد تطوير البناء في الموقع.
Photo : © Ahmad Kalaji