ولدت سارة ياسين بالكويت في ثمانينات القرن الماضي، وعرفت نفسها كفلسطينية من فلسطيني الشتات، لتعيش سلسلة من الحروب والرحلات الإجبارية نحو وطن منتظر، فغزو صدام حسين للكويت، أدى إلى مغادرتها الإجبارية نحو وجهة وحيدة وإجبارية أيضا، وافقت دون غيرها على استقبال من يحمل وثيقة سفر مصرية كسارة وأسرتها. تلك الوجهة هي بغداد، التي وصلتها طفلة بعمر 6 سنوات، وغادرتها شابة في الـ20 من العمر (عام 2006) أصبحت طالبة جامعية وشاعرة تمتلك رصيدا من الأصدقاء الأدباء في الفضاء الأوسع، وستتغير حياتها معهم.
كانت بغداد مدينة الأزمات والحروب المتوالية والفوضى القاتلة خلال إقامة سارة فيها (1992-2006)، فمثلت لها معاني “الحصار والفقر والموت والخوف واللا أمل والغربة”، فقد عاشت فيها كمحطة انتظار تخللتها محاولات عدة للسفر على الأردن، حيث بيت العائلة وأموالها التي ادخرتها خلال عقود من العمل في الكويت، حيث عمل والداها كمعلمين، ولكن هذا الانتظار لم يكن سهلا ولا مجانيا، حيث كان ثمنه حياة والدها وشقيقها.
في الصراع الطائفي الذي غرقت فيه العراق، كانت سارة – كفلسطينية الأصل – محسوبة على الإسلام السني، ولهذا السبب وحده تم خطف شقيقها وقتله على يد مسلحي الميليشيات الطائفية، ففقدت مرشدها ومشجعها الذي كان يحرص على تشجيعها وإيصالها إلى نادي الشعر ببغداد ولم تزل في الـ17 من عمرها، أما والدها الذي عاش آخر أيامه في مخيم على الحدود العراقية الأردنية بانتظار السماح له بدخول الأردن حيث منزله وأمواله، فلم يسمح له بدخولها إلا جثة هامدة.
خلال الرعب الذي رافق سارة في بغداد، كان عالم الانترنت قد فتح نوافذ تواصل مع العالم، وأطلت منه سارة على عالم مختلف يتجاوز العراق وبغداد التي لم تغادرها خلال 14 عاما، لعدم امتلاكها وأسرتها جوازات سفر، أو جنسية حقيقية تمنح صاحبها حقوق المواطن الأساسية، فقد غادرت عائلتها مدينة يافا الفلسطينية في خمسينات القران الماضي ضمن آلاف الفلسطينيين الذين فقدوا أرضهم، وفروا حفاظا على حياتهم بوثائق ممنوحة من السلطات المصرية، لم يعد معترف بها، وعبر الانترنت وبناء على اقتراح أصدقاء العالم الافتراضي يومها، وجهت سارة مناشدة للعالم كطالبة جامعية بلا حماية، تتعرض لخطر الموت هي وأسرتها في بغداد.
هذه المناشدة وجدت طريقها إلى مسامع وزير التعليم العالي اليمني الراحل د صالح باصرة، فمنحها وأخوتها منحا دراسية جامعية في اليمن لتسهيل استخراج فيزا لدخول البلد، فدخلت اليمن بعد تردد وخوف من مفارقة أسرتها والذهاب إلى بلد لم تعرفه من قبل، إلا أن استقبال عائلة فلسطينية لم تكن تعرفها من قبل مع أصدقائها الافتراضيين لها في مطار صنعاء، حولهم على الفور إلى أصدقاء حقيقيين، شعرت معهم بالألفة، وأحبت صنعاء كوطن حقيقي لها، وإن اضطرتها لتغيير ملابسها المنفتحة نسبيا بداية، لأنها جاءت إليها مهزومة ولا ترغب بخوض معارك إضافية، ثم تغيير تخصصها الدراسي في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، والتراجع من المستوى الأخير في تخصصها ببغداد، إلى المستوى الأول مجددا، لأن التخصص الذي أوشكت على إنهائه غير متوفر باليمن حينها، ومنحت صنعاء وأهلها سارة الشعور بالوطن لأول مرة، ولكن دون اعتراف رسمي. والأهم أنها قابلت مروان الغفوري، الطبيب والروائي والشاعر اليمني الشاب، وزوجها الذي تعيش حاليا وقد أصبح طبيبا للقلب في المانيا.
مرة أخرى أوقفت سارة دراستها الجامعية، حتى تستقر ترتيبات مروان بعد اقترانهما في 2008، وتنقلهما بين القاهرة وصنعاء حتى 2012، حين غادر مروان إلى المانيا، ثم تبعته سارة التي بدأت دراسة اللغة الألمانية في اليمن ومصر، لكن فيزا دخولها المانيا أشعرتها مجددا بغربتها وحياة الشتات واللا وطن، فقد جاءت في ورقة منفصلة، وبدون جنسية تنتسب إليها سارة، فكونها فلسطينية يعني أن تحمل وطنا افتراضيا داخلها لا تثبته أية وثيقة هوية أو سفر.
شاركت في انتفاضة الشباب اليمني مطلع 2011، واعتبرتها ثورتها، لأن اليمن وطن زوجها وأبنائها المنتظرين، ولأن النجاح الذي جاءت صنعاء بحثا عنه، سيمنحها الأمل بنجاحات أخرى: “كانت من أجمل الحاجات التي حدثت في حياتي”، قالت سارة عن المشاركة في انتفاضة الشباب بصنعاء.
من شهرها الأول في المانيا، بدأت دراسة اللغة الألمانية، وحصلت على جواز يسمح لها بالسفر بحرية وتمنحه المانيا لمن هم “بلا أوطان”، ونتيجة حملها له، قالت لها الموظفة المختصة التي كانت للمفارقة من أصول عربية وهي تتقدم للحصول على الجنسية مع زوجها وطفلتها: “لو قعدت 30 سنة في المانيا لن تتجنسي”، لكن المانيا بلد القانون الذي لا يسمح بهكذا سوء فهم هكذا قالت سارة، وهذا ما راهنت عليه فعندما قدمت أوراقها مجددا للجنسية كانت زوجة طبيب الماني، وموظفة متخصصة في الاقتصاد والمعلوماتية تعمل بشركة من أعرق شركات البلد، لتحصل على الجنسية، وتشعر بأن هذا البلد هو الوحيد الذي احترمها واعترف بها أخيرا، ومنحها حق الانتخاب لتمارسه لأول مرة في حياتها! حصلت على وطن في عمر الـ32، وقبل ذلك كانت دون وطن مثبت على الأوراق.
عند امتحانها النهائي للغة الألمانية اكتشفت سارة أنها تحمل طفلتها هيلين في أحشائها، ما أدى لتأجيل دراستها الجامعية للمرة الثالثة، لتستأنفها لاحقا في تخصص Wirtschaftsinformati كهدف لم تثنها عنه عوائق الشتات والانتقال، ولا تزال ترغب في مواصلة الماجستير والدكتوراه، خاصة ومروان يمنحها كل الدعم من أجل ذلك.
طبعت سارة ديوانها الشعري الأول في 2007، وشاركت في نفقات الطباعة، واستقبلت نسخه الأولى بالدموع، كمولود أول، وطبع ديوانها الثاني من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية، لكنها لم تستلم نسخة منه حتى اليوم، وقد توقفت عن كتابة الشعر منذ 2014، لأن “الإلهام جف” حسب تعبيرها.
لأن سارة تتدفق كنهر، وإرادتها تتجدد كالشمس، أطلقت وأصدقاء لها مبادرة ثقافية نوعية مؤخرا، تتمثل في تحديد 3 كتب للقراءة والتلخيص شهريا، وعقد لقاء عبر تطبيق زوووم، لنقاش وعرض هذه الكتب/الروايات وفق آراء كل مشارك بعد قراءة العناوين المحددة.
هذه المبادرة أتت وسارة في إجازة أمومة بعد إنجاب طفلتها الثانية، صوفيا، فشاركت في أول فعاليتين للمبادرة وصوفيا في حضنها تطلق أصوات البكاء بين عبارة وأخرى، ورغم تعليقات تحمل طابع التنمر من بعض المشاركين بسبب ذلك، فقد حصلت على انطباعات مختلفة تماما، تشجعها على مشاركتها بحضور طفلتها، وفي كل الأحوال، فلدى سارة الإرادة لمواصلة ما تؤمن به، فهي ترى عدم المشاركة إقرارا بأن عليها تحمل العقاب كونها أما، وهو ما لا تتقبله.
من أشعار سارة ياسين
هل كان صوتكَ ريح أم منفاك ريحان قديم؟
هل تلك بلاهةٌ خضراء؟
هل نمشي؟
قد ضلتْ سواي
وضاعتْ مني موسيقى التخيّل
والأرض عيّتْ أن تموت
ألم تعدني يا حبيب؟
“سأسرج في منافيكِ القديمة نجمتين”
ونسيت َ في وسط التوجس
إننا نحن الرماديون، ابناء القرى ، لانصدق ما تقوله فيروز
ولا ننام.
- سماح الشغدري
شاعرة وكاتبة من اليمن