ترى الرسامة هناء الديغم أن الفن أداة لتوصيل رسالة الفنان، وأن الوعي هو المنبع الأصيل لخلق تلك الرسالة. لكنها في الوقت ذاته ترى أن الفنان لا يجب أن يعبر عن الناس فقط! وإنما يجب عليه الغوص فيهم والعمل معهم، واستيعاب تنوعهم واختلافاتهم بغض النظر عن مدى اتفاقه معهم.
في حياتها بمصر الممزوجة بالفرح والألم، وبرحلتها إلى جنوب مصر لكتابة موضوع الماجستير، قابلت هناء شاب ألماني وتطورت علاقتهما إلى الزواج، لتغادر مصر باتجاه ألمانيا عام ٢٠٠٧، باحثة عن تجربة حياة جديدة، أكثر انفتاحا وفرصا وحرية.
اكتشاف الذات!
في لمحة وجدت نفسها بألمانيا لتخلع الحجاب بشكل نهائي بعد رحلة التمرد علي العادات والتقاليد التي بدأتها بمصر واستمرت معها، وتنخرط في حياة جديدة مليئة بدورات دراسية لتطوير لغتها الألمانية كانت بدأتها في مصر، وأيضَا تنويع مهاراتها الفنية كرسامة وممارسة الرسم في استوديو لفنان إيراني ساعدها زوجها بالوصول إليه خلال عامها الأول في ألمانيا.
ولأنها لا تتقبل أي جديد أو فكرة دون وعي تام، سألت هناء نفسها لماذا أنا هنا وماذا أعمل، وهل أتبع زوجي أم نفسي؟ أرادت إعادة اكتشاف نفسها كأم، وعضو بمجتمع جديد لم تفهم طريقة تفكيره بعد، وترغب بالحفاظ على هويتها الأصلية وفي نفس الوقت الاندماج بحياة جديدة وفق معادلة متوازنة بين هويتين!
حاولت هناء العودة إلى مصر أكثر من مرة، لأنها لم تستطع مواجهة خسارة ما تحن إليه هناك: “شعرت أني فقدت شيئا من روحي”! لأحست بأنها طفلة مجددا ويجب أن تتعلم الكثير من الأشياء مجددًا، ولتتمكن من الحكم على موقفها بوضوح، لجأت للاستشارات النفسية، والقراءات عن تطوير الذات، وخاضت بحث جديد بتوسيع الوعي!
الجسد والطبيعة
ترى هناء ان اللجوء إلى الفن قد يكون علاجا نفسيا واستكشافًا لشخصية المرء من الداخل! لذلك حرصت بشدة على مواصلة الرسم وتنويع تقنياتها، وكان لها مسيرة حافلة في مصر، إذ شاركت خلالها بالعديد من المعارض الجماعية، ومعرضين خاصين، أوصلت ما تريد عبر الفن للمواطن العادي، ولم تقتصر على النخبة الفنية. حمسها انبهار الأطفال بلوحاتها وأسئلتهم عن الرسم على تنفيذ ورشة تعليمية لهم ضمن المعرض.
في ألمانيا، درست هناء رسم الجسد العاري، لولعها بالتعبير عن الإنسان والخوض في خباياه، وعام ٢٠١٠ بدأت الاهتمام بالعودة للطبيعة، فمع دراسة الجسد العاري خرجت للطبيعة لتدرس تفاصيل الأشجار، فدمجت لوحاتها تفاصيل الجسد وانصهاره بالطبيعه لأنه جزء منها، إلا أن ذلك الانشغال تراجع من أولوياتها فجأة مع قيام الثورة المصرية مطلع 2011.
دعوة للمشاركة في هومبولدت فورم
غادرت هناء مصر، لكن مصر لم تغادرها، لتعود إلى القاهرة ٢٠١٢ وفي وسط المظاهرات شاركت مجموعة من الفنانين المصريين برسم جداريات عملاقة في الشوارع، تعكس واقع الحياة اليومية للمواطن المصري! ولأنها عادت في ذروة الأزمة التي جعلت الحصول على أنبوبة غاز الطبخ المنزلي معاناة مستمرة للمصريين، رسمت جدارية بعنوان “هرم الأزمة”!
جداريات هناء لفتت الانتباه إليها كفنانة لديها رؤية مرتبطة بالواقع المعاش، لتتلقى مؤخرا عرضا من معرض برلين بمتحف هومبولدت فورم الجديد، لرسم جداريتين ضخمتين في حجرة الثورة.
ولاستمرارا التزامها تجاه الأطفال والنساء، حصلت في 2014 على منحة في برلين، لدمج الأطفال اللاجئين عن طريق الفن، عبر مشروع فني بعنوان مرحباً ليشتينبرج، لإخراج الأطفال لمكان جديد وعمل جولات جماعية لمعرفة محيطهم، وتوثيقه بعدسات الكاميرات التي وفرتها لهم، ثم تجميع إبداعاتهم ولصقها بمشاركاتهم في بيئة تمنحهم الخصوصية وتشعرهم بالانتماء.
حوار الحضارات!
نجاح هذا المشروع شجع هناء على تعميم الفكرة مع النساء بمشروع “خيامية مساحة فن”، فاستقطبت نساء من ثقافات وتجارب مختلفة تجمعهن الحياة في برلين، ليتفاعلن بحوارات ثقافية مختلفة كنساء وأمهات للتعرف على أنفسهن والمشترك والمختلف الثقافي بينهن. أدى نجاحها معهن أيضا إلى سلسلة جديدة من العمل متعدد الثقافات مع بعضهن (يابانية ومكسيكية ويونانية) إضافة إليها كمصرية، كحضارات قديمة تحاول البحث عن القاسم المشترك، لمساعدتهن على حل المشكلات الراهنة، ومعرفة الحضارات الأخرى، ليفهم الأطفال منبعهم ومصدر ما يتعلمونه، ومساعدتهم للانفتاح على الآخرين.
تريد هناء أن تستقر نفسيا، وتستمر في رسالتها التي استخلصتها من تجربتها الفنية والحياتية، للعمل بفضاء إنساني أوسع من جغرافيا البلدان، والأفكار الأحادية الضيقة، وتؤمن بمسؤوليتها بتكوين وجدان طفلها، وأيضا وجدان الطفلة التي بداخلها!
- تقرير: سماح الشغدري
شاعرة وكاتبة من اليمن - صورة الغلاف للفنانة هناء الديغم Hanaa El Degham