“إذا كان هناك شخص تحبه يجب أن تقول له وداعاً” عبارة قالها مايك (فريديرك لاو) لنبيل إبراهيم، قبل أن ينتحر الأول في زنازنته! نبيل إبراهيم الذي يلعب دوره الفنان الألماني قضا خضر رمضان بطل مسلسل العصابات الشهير “فور بلوكس” يُصاب بمرض عضال في السجن، الذي قضى فيه 15 عاماً، بعد أن اتهم بقتل شرطي أثناء مطاردته هو وصديقه إيفو القاتل الحقيقي الذي هرب وترك نبيل بمسرح الجريمة! وبما أن قوانين الدولة الألمانية تسمح للمصاب بمرض عضال وهو سجين بأن يقضي أسابيعه الأخيرة بين أهله، خرج نبيل وهو يعتقد أنه يعيش أيامه الأخيرة، كما ردد أكثر من مرة في الفيلم الذي حمل اسم “في برلين لا تنمو شجرة البرتقال” الذي أخرجه قضا رمضان نفسه، وشارك في كتابته مع الكاتب جوري شتيرنبرغ.
سيناريو مركب
للوهلة الأولى ظننت أنني سأشاهد فيلماً نهايته متوقعة، فبعد خروج نبيل من السجن، خُيّل لي أنه سينتهي بانتقام نبيل من صديقه الذي خذله رجل العصابات إيفو، لكن أحداث الفيلم سارت باتجاه آخر، حاملةً معها تفاصيل مما يعيشه المهاجر العربي في ألمانيا، مرّ عليها المخرج مرور الكرام، لكنها حملت رسائل واضحة، ورغم ثانويتها بالقصة، إلا أنها كانت رئيسية!
نبيل في الفيلم كان يحلم أن يصبح كاتباً مهماً، على الرغم أن والده كان يعارض هذه الرغبة، ويود أن يصبح ابنه سياسياً ليسهم بوقف الحرب في لبنان، والتي تسببت بهجرته هو وعائلته إلى ألمانيا. لكن الحرب وكما جاء على لسان “حكيم” صاحب محل في منطقة نويكولن “لم تنتهِ”، حكيم أيضاً لعب دوراً مهماً على الرغم من أنه دور ثانوي في الفيلم، لكنه أعطى صورة عن بعض المهاجرين الذين لم يستطيعوا اتقان اللغة الألمانية، فهو يستطيع فهمها، لكنه لا يتكلمها! ومعظم الحوارات التي دارت بينه وبين نبيل حين استقبله في الغرفة الخلفية لمحله كانت تدور باللغة العربية. حتى قصة نبيل حين رواها لابنته يويو رواها باللغة العربية، محاولاً ترجمة بعض الكلمات باللغة الألمانية ليوصل الرسالة لابنة نبيل.
المشهد الآخر الذي لفت انتباهي بالفيلم، هو العلاقة التي كانت تربط بين يويو ووالدها نبيل الذي لم يكن يعرف بأن له بنت من زوجته السابقة، ليكتشف ذلك أثناء زيارته لزوجته السابقة محاولاً إرجاع المياه إلى مجاريها، لكنه فشل، لتظهر يويو التي لعبت دورها (إيما دروغونوفا)، والتي كانت تعتقد بسبب كذب أمها، أن أباها هو عازف موسيقا مشهور، يعرض أعماله في مسارح العالم لكنه لم يعد بعد، حتى تعلمت العزف على آلة “تشيلو”، لتحقق حلمها بالعزف يوماً هي وأبوها على أحد المسارح.
عندما عرف نبيل أنها ابنته، لم يخبرها كونه وعد زوجته السابقة أن يخرج من حياتها وحياة ابنتها، بعد أن خيّب أملها بدخوله السجن. لتسير الأحداث، وتكتشف “يويو” أن نبيل هو أبوها الحقيقي، وأنه لم يكن موسيقي مشهور، بل سجين سابق. وخلال الأحداث المتسارعة والتي امتدت لـ 90 دقيقة، دون أي يتملكني الملل من مشاهدتها، تنشأ صداقة بين يويو، وأبيها نبيل، ليستمتعا معاً بوقتهما، ويعوضا الفترة التي عاشا بها بعيدين عن بعضهما البعض، وفي لحظة خلاف بين يويو وأمها تقرر أن تذهب مع نبيل إلى برلين، حيث كانت تعيش هي وأمها في إحدى قرى ولاية براندنبورغ! برلين بالنسبة ليويو كانت حلماً بعيد المنال، لكون أمها لم تكن تسمح لها بالسفر لوحدها.
في برلين يحاول نبيل مرة أخرى مع إيفو صديقه الذي تسبب بحبسه، ليسترجع أمواله التي كسبها في الصفقة التي كان سبباً بسجنه 15 عاماً.. لكن إيفو كان يماطل، على الرغم من حاجة نبيل الملحة للمال، كونه يود أن يتابع علاجه من مرضه العضال! في برلين يعيش نبيل ويويو في الغرفة الخلفية لمحل حكيم الصديق القديم لنبيل.
يويو ونبيل في برلين
تنتقل أحداث الفيلم لتدور في العاصمة برلين، والتي ظهرت في مشاهد بانورامية للمدينة، تظهر الأضواء، والحركة الدائمة في شوارعها المزدحمة، وفي برلين تتعرف يويو إلى صديق، وهنا تكون المواجهة الأولى بين نبيل وابنته، فهو لا يرغب بهذه الصداقة كونه قادم من الشرق الأوسط، وهناك هذه النوع من العلاقات غير مقبول، الأمر الذي تسبب بغضب يويو، لتوجه كلماتها إلى نبيل أنها تستطيع أن تتسامح بكل شيء إلا حريتها، فهي المسؤولة عنها فقط.
من ثم تعود العلاقة مجدداً بين نبيل ويويو بعد أن نظم هو وحكيم حفلة بسيطة بمناسبة عيد ميلادها، وهنا يقبل نبيل بصديق يويو لكن على مضض، وفي هذه الأثناء تكتشف يويو مرض أبيها، وتحاول أن تقنعه أن يذهب للطبيب لكنه يخبرها بعدم وجود المال الكافي لذلك، لتصر يويو أنها هي من ستواجه إيفو، الذي استغل حاجتها هي وأبيها، ليطلب منها أن تنقل له أموالاً بطريقة غير شرعية من بناية كانت يستخدمها كمخبأ، لتقبل يويو بذلك بهدف أن تحصل على المال اللازم لعلاج أبيها، لتدور الأحداث وتتفق يويو مع صديقها للتخلص من إيفو، لكن في هذه الأثناء تظهر دورية للشرطة، وأثناء تفتيش يويو يظهر صديقها فتنشغل الشرطة به، وتهرب يويو مع أمها التي ظهرت فجأة في المكان! وتدور الأحداث ليقتل إيفو أثناء مشاجرة مع نبيل الذي طلب منه أن يقتله فهو لم يعد صالحاً للحياة بسبب مرضه العضال! وهنا أذهلني مشهد نزول الدموع من عين إيفو الصديق الذي نشأ معه نبيل منذ الصغر في شوارع برلين، والذي أثبت أن المخرج وكاتب السيناريو اهتمامًا كثيراً بتفاصيل مهمة جداً، وأثناء نزعه الأخير يردد إيفو الجملة التي كان يقولها له نبيل عندما سرقا برتقالاً وهم صغار، حيث كان إيفو يزرع برتقال في الأرض، فسأله نبيل ماذا تفعل، فقال له إيفو أريد أن أزرع البرتقال حتى لا نضطر لسرقته مرة أخرى، ليكون الجواب على لسان نبيل “في برلين لا ينمو البرتقال فالجو بارد جداً”.
المشهد الأخير
في المشهد الأخير، ظهر إبداع المخرج، وصناع الفيلم، فبعد زيارة نبيل للشخص الذي تسبب بمقتل إيفو في السجن، خرج ليجد زوجته السابقة وابنته يويو تنتظرانه بسيارة أجرة، لتقول له يويو هيا سنطير إلى بيروت! ملوحة له بثلاث تذاكر للطائرة، وعندما تسير السيارة يظهر على سطحها شجرة برتقال! بيروت لم تغادر الفيلم أبداً، فهي صورة معلقة على جدار زنانة نبيل، وكذلك على جدار الغرفة التي استأجرها حين عاد إلى زوجته السابقة، وأيضاً الصورة ذاتها علقتها يويو على جدار الغرفة الخلفية لمحل حكيم بعد أن قامت بتنظيفها، وحين سألت أباها عنها قال لها إنها أجمل المدن في العالم، في إشارة إلى بلده الأم الذي تهجر منه هو وعائلته أثناء الحرب الأهلية اللبنانية! وهاهنا عبّر نبيل عن الكثير من المشاعر التي تدور في ذهن جميع المهاجرين، والتي تلخصت في قول الشاعر أبي تمام “كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنــــينه أبدا لأول منزل”.
العرض الترويجي للفيلم هنا
Photo : IN BERLIN WÄCHST KEIN ORANGENBAUM Trailer